كل جريدة لها مرجع، ومرجعها الأساسي هم الرجال الذين مروا عبرها إدارة وتسييرها وتركوا عليها ملامسهم وآثارهم وكيف قادوا الجريدة في المراحل الأشد قسوة وصعوبة، رالوجهة التي اتخذوها في ذلك. بعضهم يسمي ذلك خطا، والمعنى لا يخلو من توجهات سياسية. نفهم جيدا أن جريدة الجمهورية جريدة دولة وخطى أي مسؤول أو مدير تتحدد بارتباط بما ما يؤمر به، ويؤمن به أيضا. موقفه عادة يكون رهين بمن هو فوقه رتبة ويأتمر بقراراته. تفكير السياسي هو الغالب. ومن هو فوق المدير يحدد له المساحات، وكل خطأ يدفعه الصغير لأنه الحلقة الواصلة بين الصحفيين والإدارة العليا. لهذا كان الحذر في الجريدة من ناحية الإدارة هو الحاسم في النهاية. الكل يحذر من الكل. إلا أني أستطيع أن أقول إن بعض المدراء غيروا عميقا في الجريدة ومنحوها من ملامسهم وشجاعتهم أيضا. في بداية التعريب ظلت الجريدة خجولة يعتريها خوف فشل التجربة، وهو أمر لم تكن الجريدة قادرة على تحمله. كان القرار قرار دولة مجسدا في وزيرها للإعلام والثقافة. وكان يجب أن ينجح المشروع حتى ولو أدى ذلك إلى كسور آت صعبة. وكل مدير في تلك الفترة، جاء إلى الجريدة ومعه أحلامه وأوامره وخوفه في ظرف ما بعد الاستقلال الذي لم يكن سهلا. ذهب مدير الجمهورية الهواري السايح الذي أعطى ما عليه وجيء بمحمد الشريف زروالة الذي أوكلت له مهمة تعريب الجمهورية بكل الوسائل الممكنة. كانت المهمة صعبة إذ عليه أن يجد حلا للصحفيين الفرانكفونيين الذين لا يعرفون العربية بتاتا، لكنهم صحفيون كبار ومتمرسون. لم يكن من حل ارتسم في أذهان الجميع إلا التسريح أو التقاعد لمجموعة منهم. وذاك ما تم في النهاية. بين يوم وليلة تغير وضع الكثير من الصحفيين الفاعلين. من القيمة الاعلامية العليا إلى لا شيء تقريبا. وتم تسريح هؤلاء الصحفيين اعتمادا على قاعدة الإحالة إلى التقاعد، وما شابه ذلك، أزيد من 20 صحفيّا لحقهم هذا الخيار الصعب، وتم الإحتفاظ بعدد منهم كان قادرا على التكيّف مع اللّغة العربية وتعلمها إذ كان يملك رصيدا يؤهله لذلك. وشُرِع مباشرة، بعد تعيين الشريف زروالة، في يوم الإثنين 5 يناير 1976 في تعريب العدد 3853 من الجريدة، بداية من الصفحة الأخيرة. إذ كان التعريب التدريجي للجريدة هو الخيار الأساس. كتب يومها وزير الثقافة والإعلام السيد أحمد طالب الإبراهيمي عمودا في الجمهورية نفسها أظهر فيه الخيارات اللغوية والسياسية القادمة لجزائر ما بعد الاستقلال. اختار عنوانا بارزا لمقالته يجسد فيه طبيعة الخيارات ومراميها الخيار *خطوة الجمهورية مع مطلع العام الجديد* يقول في عموده بوضوح: *...وهكذا وبعد أربع سنوات من تعريب *النصر* الصادرة بقسنطينة يأتي دور *الجمهورية* كمرحلة تندرج ضمن السياسة التي رسمتها القيادة لتعريب القطاع إذ لا يمكن التحدّث عن تحقيق أهدافنا إذا بقي قطاعنا ينطق بلغة أخرى غير العربية...*. الكثير من الصحفيين الفرانكفونيين كانوا ينتظرون قرارا أكثر تعقلا يراعي أوضاعهم. لكن التجربة كانت قد انطلقت ولا يهمها المصائر الخاصة للأفراد، إذا مسحت في طريقها كل من يواجهها. مع يناير 1977 كان كل شيء قد انتهى وأصبحت الجمهورية معربة كليا. الباقي لا يهم، فهي جزء من الضربات الصديقة التي لا يمكن تفاديها. وخرج الشريف زروالة منهكا من هذه التجربة، لكن منتصرا أيضا لأنه ترك وراءه جريدة معربة كليا. وكان الشريف زروالة الذي عاش كل معارك تلك الحقبة قد تعب من السير على الحبل الصعب إذ أي حركة غير محسوبة قد تؤدي إلى الانكسار. ليس سهلا أن تكون أنت من يعزل زملاء المهنة الذين تعرفهم جيدا. وكان لابد من تجربة أخرى، فتم تعيين السيد السقاي عبد الحميد في يناير 1977، سادس مدير لجريدة الجمهورية، فأكمل المسيرة بكلّ تفانٍ طوال سنتين كاملتين خصّصهما لتحصين العمل الصحفي باللغة العربية. الرجل جاء بكل خبرته الإعلامية إلى جريدة الجمهورية لترسيخ ما تحقق وغلق باب الردة نهائيا كيفما كان مستوى الجريدة بالقياس إلى الفرانكفونية التي سبقتها إلى الوجود. كان الرجل شديد الطيبة. صورته التي بقيت مرسومة في ذهني هي صورة الأب الطيب والخلوق الذي لا ينفعل تقريبا أبدا. ولكن أيضا المنفذ للأوامر العليا للوزارة الوصية، فهو مقتنع بمسألة التعريب ولا يقبل فيها نقاشا. فهي في النهاية مسألة سيادة وطنية لا قبول فيها للتفاوض. كان دائما يقول إن فرنسا اليعقوبية لا تقبل بالسجال والأخذ والرد حول لغتها. لا يزور قاعات التحرير إلا نادرا. في مرة من المرات جلس بجانبي وأشبعني أسئلة، أتذكر من ذلك بعضها أو على الأقل ما أثار انتباهي. قال أنت ابن شهيد على ما فهمت؟ قلت نعم. والدي استشهد تحت التعذيب. هز رأسه ورأيت دمعا ارتسم في عينيه وهو يتمتم: والدك استشهد من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية. اللغة العربية كانت رهانا من رهانات الاستقلال. لم أجرأ أن أقول له إن والدي هو من ألح على أمي، وهو في زنزانة السواني البشعة الصيت، على تعليمنا باللغة الفرنسية لأنها هي الوحيدة المتوفرة. كان يرفض الجهل. بين الأمية والفرنسية أختار أقل الضررين. كانت اللغة العربية منعدمة وتكاد تكون ممنوعة، إلا في بعض الكتاتيب البعيدة عن التجمعات القروية. يكبرون ويختارون. هكذا قال لأمي. لا أريد لأبنائي أن يكبروا أميين. وسيفهمون جدوى التعلم. الفرنسية لم تكن لغة فقط بالنسبة لي. كأس الحليب الصباحي والمسائي. قطعة الشوكولا وخبز البولانجي ذي الرائحة العطرة. كانت تعني السينيما مرة في الشهر في قرية السواني المجاورة، والخروج في جولات إلى الغابة. نظام حياتي صارم ونظافة لا تقبل فيها المساومة. الفقر كان مقبولا لكن ليس الوسخ. تحليقه البولازيرو التي تطرد الحشرات الصغيرة التي تلتصق بالشعر، القمل والصيبان. كان يمنع علينا تطويل الشعر. حالة الاستعمار البشعة. لم أجب السيد السقاي وزممت فمي قبل أن أقول له معك حق يا سيدي. خفت أن لا يفهمي. التقيت به في مرة من المرات في دعوة رسمية وحكيت له الحادثة. ضحك كثيرا بطيبته المعهودة حتى سقطت نظارته: هل كنت مخيفا إلى هذه الدرجة. كان الأستاذ السقاي رجلا شديد الحب للغة العربية وثقافتها ودينها، في سلام مع الآخرين ومع نفسه. كان متحمسا لمشروع تعريب الجريدة، وكان ذلك جزءا من قناعته. بالنسبة له القرار السياسي كان كافيا ويحسم أي نقاش. التعريب كان خيارا. والخيار هو صورة الدولة. طبعا لم يكن هناك أي خلاف حول الخيار ولكن حول تطبيقات هذا الخيار على أرض الواقع. وكان لابد من انتظار عيسى عجينة كرئيس تحرير، ثم كمدير للجمهورية في ديسمبر 1978 لتفتح الجريدة على فضاء كان مهملا، الجامعة، والإستنجاد بالكفاءات المعربة العقلانية التي كانت في طور التكوين. والعناصر الدينامية التي لها تكوين جامعي عال، فاستحدث عدة منابر شدّت القارئ مثل النادي الأدبي والتحاليل والتحقيقات. عيسى عجينة. جاء من الإعلام المكتوب. كان يعرف جيدا الصراعات التي كانت تمزق الجريدة داخليا لهذا التجأ إلى سياسة مختلفة جذريا عن تلك التي انتهجها من سبقوه. أعتقد أنه أدخل عناصر تسييرية مهمة في الإعلام. الثقة والعمل. وتحرير المبادرات. لم يقف في اي يوم في وجه مقترح يراد من ورائه إصلاح الجريدة. أولا مشكلة المعارك اللغوية. فقد منح لكل الأطراف حقها في التعبير دون النسيان بأن الجريدة أصبحت عربية وعلى الزملاء الصحفيين إدراك بأن الخيارات تمت وانتهى الأمر ولا يمكن الرجوع إلى الوراء، ولكن كيف يمكن أن نخفف من الانكسارات اللغوية التي كانت تخترق الجريدة بعنف؟ فقد اعتمد على التأهيل الصحفي المهني الذي لم يكن سهلا، والترجمة، وتقدير جهود الصحفيين الفرانكفونيين وتسهيل مهام من كان يخطط للانتقال إلى العاصمة نحو المجاهد الفرانكفونية، أو الجرائد الأسبوعية الأخرى مثل الثورة الإفريقية والجزائر الأحداث وغيرهما. لم تكن هناك حلول كثيرة باستثناء التي ذكرت. التعقيدات الكثيرة موجودة ولا يمكن تفاديها أو التغاضي عنها. كان كلما احمر وجه عيسى، بدا واضحا أن زعفة شاوية ترتسم في الأفق يتبعها أيضا سخاء شاوي متسامح ومتفهم. لم يكن من أصحاب المكاتب. كان دوما في غرفة التحرير إما مناقشا لشيء أو مساجلا وإما غارقا في لحظة تأملية، أو مجيبا عن سؤال أو مصححا. كان عيسى شعلة متقدة من الحياة. رجل عملي ويجد الحلول في اللحظة نفسها. هذه الرحلة الصعبة التي أدارها مديرون عديدون لم يعمروا طويلا في مناصبهم. وهذا يبين أن الجهود الثقافية واللغوية والتسييرية كانت كبيرة ولو أن النهاية كانت دائما تأتي بتوقيف مدير الجريدة وتعويضه بغيره. وكثيرا ما كان بعض الصحفيين يصفقون للتغييرات ولكنهم لم يكونوا يدرون أن كل من كان يأتي من المدراء كان محملا من الوزارة الوصية بسلسلة من الخيارات الرسمية التي كان عليه تحقيقها. لم يكن تغييرهم السريع، بمعدل سنتين أو أقل، دليلا على استقرار في الجريدة بقدر ما كان رحلة معقدة لكل واحد فيها مسافة لا تتعدى السنوات القليلة. شريف زروآلة عرب الجريدة على مدار السنة ثم أرهق. السقاي رسخ المكسب وسط وضع سياسي لم يكن سهلا دائما. وخبرة عيسى عجينة في رئاسة التحرير خلت حوله دائرة من الشباب الذين فتح أمامهم أبواب الجريدة لتخرج نهائيا من نزعتها الجهوية وتصبح وطنية. لكنهم كلهم جنود الخفاء أمام أوضاع صعبة. لكل واحد منهم التقدير والاحترام على جهوده المضنية في ترسيخ جريدة كانت جديدة على المشهد اللغوي