الدكتور قادة جليد – الفلسفة بنت زمانها: إنّ الفلسفة عند هيجل هي تعّين في الزمان والمكان وبالتالي يمكن أن نعتبر هذه الحقيقة هي نقطة الانطلاق في فلسفة هيجل الحقيقية، لأنه كثيرا ما تنعت فلسفة هيجل بأنها ذات نزعة مثالية، وكثيرا ما تفهم أيضا بأنّها فلسفة حالمة غارقة في الميتافيزيقا وبعيدة عن الواقع ولكن الرجوع إلى فلسفة هيجل ونصوصه الأصلية وسياقها التاريخي، كل هذه المرتكزات والمعالم تشير إلى عكس ذلك تماما فالفلسفة حسب هيجل هي إفراز لمنطق العصر ونتيجة من نتائجه وهي بذلك تتلون بظروفه الواقعية وملابساته التاريخية يقول هيجل مؤكدا هذه الحقيقة في كتابه المهم (أصول فلسفة الحق): "فمهمة الفلسفة هي أن نفهم ما هو موجود لأنّ ما هو موجود هو العقل، إنّ مهمة الفلسفة لتنحصر في تصور ما هو كائن لأنّ ما هو كائن ليس إلاّ العقل نفسه ولو أننا نظرنا إلى المسألة من جهة نظر الفرد لرأينا أنّ كلا منا ابن عصره وربيب زمانه، وبالمثل يمكن أن نقول عن الفلسفة إنّها عصرها ملخصا في الفكر وكما أنّ من الحمق أن نتصور إمكان تخطي الفرد لزمانه فإنّه لمن الحماقة أيضا أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص" (01). ومن هذا السياق الفلسفي الهيجلي، يمكننا أن نفهم شيئا واحدا وهي أنّ فلسفة هيجل جاءت لفهم الواقع، الواقع الألماني الباهت والداكن في مطلع القرن التاسع عشر، هذا الواقع الذي كان يتقهقر ويتراجع أمام قوى أوربية محيطة كانت في طريقها إلى التقدم والرقي مثل بريطانيا في نهضتها الصناعية وفرنسا في ثورتها السياسية وتطورها الفكري، لقد كان هيجل يتجرع الألم والخيبة وهو ينظر إلى الواقع الألماني المفكك والمجزأ، هذا الواقع الذي رفض أن ينظر إليه نظرة سطحية محكومة بمبدأ الصدفة، بل أراد أن ينظر إليه نظرة عقلية عميقة يكتشف من خلالها المبادئ الثابتة والضرورية من خلال الأعراض المتغيرة "ومعنى ذلك أنّ هناك نظرتين للواقع، نظرة سطحية هي نظرة الفهم، تراها مفككة متناثرة لا تجمعها رابطة قوية لأنّها تظهر بفعل الصدفة أو الهوى أو العشوائية ثمّ هناك نظرة فلسفية هي نظرة العقل وهي التي يدعونا هيجل إليها، وهي التي ترى خلف الأحداث مبررا قويا وسببا ضروريا هو الذي جعلها على هذا النحو". (02) وإذا جاءت فلسفة هيجل لتخترق الأشكال لتنفذ إلى الجواهر في فهم الواقع الألماني على ضوء مبدأ العقل والعقل وحده لأنّ كل ما هو واقعي عقلي وكل ما هو عقلي واقعي، فإنّها جاءت أيضا لتنتقد تلك المقاربات الفكرية والسياسية من قبل الألمان لواقعهم المأزوم، هذه المقاربات التي رأى هيجل أنّها بعيدة عن العقل وأنّها تعبر عن تصورات قبلية يسودها مبدأ الصدفة لا الضرورة ويرى هيجل في هذا المعنى "إنّه من العسير عادة على أواسط الناس إلى تكوين عادة عقلية هي التعرف على الضرورة والتفكير فيها فتراهم يحشرون حشرا مجموعة من الأفكار والتصورات بين الأحداث وتفسيرها ثمّ يلجأون بالشكوى لأنّ ما حدث لم يتفق مع تصوراتهم والأعجب من ذلك أنّهم يلتمسون الأعذار لتصوراتهم وأفكارهم بحجة غريبة هي أنّه في حين أنّ الضرورة هي التي تسودها فإنّ ما يسيطر على الأحداث هي الصدفة، إنّهم في الواقع يفسرون الأشياء على أنّها مجرد أحداث فردية معزولة ولا ينظرون إليها على أنّها نسق من الأحداث تحكمه روح واحدة" (03). وانطلاقا من النصوص الفلسفية الصريحة والواضحة لهيجل ومن مواقفه السياسية يتبين لنا أنه كان ضد تيار تبرير الواقع، بل إنّه كان يتمنى في أعماقه واقعا آخرا لألمانيا، واقعا يسود فيه العقلي والكلي لا الصدفة والفردية، ومن هنا كانت مسؤولية هيجل التاريخية على الأقل بالنسبة له أمام نفسه وهو ضرورة تغيير ألمانيا من الناحية السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية. ولقد جاءت فلسفته كلها في سبيل تحقيق هذا الهدف وهذه الغاية، ولا عجب بعد ذلك إذا وجدنا هيجل يهتم بالسياسة لأنّ السياسة هي مصدر القرار وقوة التغيير وأداته المباشرة، فلقد كانت السياسة اهتمام هيجل وهاجسه طوال فترة نضجه وعطائه الفكري وبروزه الإجتماعي "وفيما بين البداية والنهاية ظل اهتمام هيجل بالسياسة وفلسفتها مستمرا طوال حياته حتّى ذهب البعض إلى القول بأنّه كانت في حياة هيجل منذ بدايتها رغبة جامحة للتأثير في الحياة السياسية والإهتمام السياسي العملي في حين ذهب آخرون إلى أنه ثارت في نفسه تطلعات كثيرة فقد كان يحلم أن يصبح مكيافلي عصره" (04). ولا شك أنّ الانشغالات السياسية لهيجل وهواجسه الوطنية والقومية في رؤية ألمانيا أحسن من واقعها قد انعكس على أفكاره واهتماماته الفكرية والعقلية وقد تجلّى ذلك واضحا في كتابه (دستور ألمانيا) الذي يصف فيه الواقع الألماني المريض، فلقد كان هذا الكتاب يعالج قضايا سياسية مباشرة لحالة ألمانيا "ولا شك أنّ هناك عوامل كثيرة دفعت بهيجل إلى هذا الإهتمام بالسياسة منها أسرته وتربيته وثقافته لكن أهمها جميعا أحداث العصر الذي عاش فيه وما شاهده من تغيرات سياسية سريعة وهائلة فقد سيطرت الثورة الفرنسية إبان سنوات تكوينه وامتدت إلى ما بعد نضجه، فقد كان في التاسعة عشر عند سقوط الباستيل وفي الخامسة والأربعين عندما وقعت معركة واترلو ومات بعد عام واحد من ثورة يوليو" (05).