في السّبعينات كان الذين يُهَاجِرُون إلى الخارج (فرنسا بصفة خاصة) ليسوا مُتَعَلِّمِين، ويذهبون بَحْثاً عن الشّغل فقط، كما كانوا يَهْجُرُونَ الوَطَنَ مُكْرَهِينَ من أجل توفير الرّزق، وكانوا يُقْرِنُون بين الغُرْبَةِ والمِحْنَة، وكان الفنُّ – بمختلف أجناسه- الذي تناول موضوع الغُرْبَةِ،في ذلك الوقت يزهِّدُ النّاسَ فيها، ويُحذِّرُهم منها،ويُمْكِنُنَا أن نستشهد -على سبيل المثال-بالأغنيّة الشهيرة التي غنّتها الفنّانة نورة الجزائريّة، على لسان مُغْتَرِبٍ يَستعجِلُ الطّائرةَ، لكي تعود به إلى الجزائر،وهذه بعض كلماتِها المليئة بالتشكّي من الغربة: يا طيارة طيري بِيَّا.. وادِّيني لَمْوَالِيَّا يا طيّارة طيري بيّا.. وادِّيني للجزاير الغالية عليّا في الغربة مَارِيتْ غير لَمْحَانْ.. كل يوم تَقْوى أضراري ياطيارة طيري لْوَهْرانْ.. وانزور بلاد سيدي الهواري ياطيارة الغُرْبَة حزينة.. أَحْلِيلُو مسكين اللي بَعَّد اديني لقسنطينة.. ونزور بلاد سيدي راشد ياطيارة لَغْرِيبْ في الذُّلْ.. وبلادو منَوْرَة وزَاهْيَة ومن أحسن ما غَنَّتْ في هذا الموضوع أيضا، درَامَا حقيقيّة، لِأُمٍّ تذوبُ حَسْرةً على ابنها الذي دَفَعَتْهُ ظروفُ الهجرة إلى أن يتزوّج “بنت الرّوميّة” : يا ربي سيدي واش عملت أنا ووليدي.. رَبِّيتُو بِيدِي وادَّاتُو بنت الروميّة!.. مْشَى عليّا سَافر.. في الدنيا وَحْدِي نَتْعافَر شاف بنت الكافر.. تَبَّعْهَا وفَرَّطْ فِيَّا اعلاش مَتْلَوَّحْ؟.. أنا لِيلْ وانْهارْ انَّوَّحْ لا بْغِيتْ اتْرَوَّحْ!.. لا مرسول لا خط بْرَيَّا بين الأمس واليوم حَدَثَتْ تَحَوُّلاتٌ ثقافيَّةٌ واجتماعيَّةٌ هائلة، ولمواجهة مَوْضُوعِ الهجرة اليوم،يجب معالجة أسباب التَّحَوُّلَيْن التّالِيَيْن بِعُمْقٍ وجِدِّيَّةٍ: التّحوّل الأوّل: أصبح المُتعلِّمون وذَوُوْ الشهادات العليا أكثر هِجْرَةً،على عكس ما كان عليه الأَمْرُ سابقا، فقد تحدّثتْ وسائلُ الإعلام هذه الأيّام،مثلاً، عن هِجْرةٍ غير مسبوقةٍ للأطبّاء،وقد أصبحوا يُهَاجِرُونَ بِحُجّةِ البحثِ عن البيئة المناسبة لاستغلال وتطوير مَعارِفِهم، وبَحْثاً عن التّقدير المعنوي الذي يعتقدون أنّهم أصبحوا لا يَجِدُونَهُ في وطنهم، على عكس ما كان يحظى به المُتَعلِّم من تقْديرٍ من قبل (كان المُعَلِّمُ في السبعينات يُمثِّلُ نموذجا أعلى لكلّ الفئات)..إذن فلمتَعُدْ الهجرةُ منْ أجل الاسترزاق فقط، كما يبدو للبعض، حيث أصبح كثيرٌ من ذوي الشّهادات العُلْيَا يُبَرِّرون هِجْرتَهم بالهروب من بعض الممارسات غَيْرِ المسؤولةِ التي تَجْعَلُ النُّخَبَ المُتَمَيِّزةَ عِلْمِيّاً،عُرضَةً للتّهميشِ، ولِسُوءِ التّقدير وعدم الاحترام،بغرض إسقاط النَّمَوْذَجِ المُرْتَبِطِ بالعلم والمعرفة، وتعويضه بنماذج أخرى لا اعتبار للكفاءة المعرفيّة والثّقافيّة في اختيارها. التّحوّل الثّاني:لم يَعُدْ غَيْرُ المُتعلِّمين مرغوباً في هِجْرتِهم،في حين أصبحوا يُشَاهِدون أَغَانِيَ وأفلاماً تُقْرِنُ بين الهِجْرَةِ والجَنَّةِ، خِلافاً لِمَا كان يَتَنَاوَلُهُ الفنُّ بِخُصُوص الهِجْرةِ مِنْ قَبْلُ، ولذلك لجأوا إلى “الحَرْڤة”،وأصبح الشَّبَابُ يَتَدَاوَلونَ أغانِيَ كثيرةً تُشَجِّع عليها،مثل أُغْنِيَّة “يا البابور يا مون أمور” التيجاء فيها: يا البَابُورْ يَا مُون أَمُورْ.. خَرَّجْني من لاميزير.. في بلادي راني محڤور.. (البابور: السفينة، مون أمور: حُبّي، لاميزير: البؤس) ويُمكن لأيّة دراسةٍ مُقارِنَة بسيطَةٍ، أن تقف على الفارق الكبير في الرُّؤية والمحتوى والعاطفة، بين أُغْنِيّتَيْ “يَا طِيَّارة” لنورة الجزائريّة و”يا البابور يا مون أمور” لرضا طلياني، فبالرّغم من أنّ كلَّ واحدةٍ منهما تناولتْ موضوع الهجرة، و بالرّغم من أنّ كُلَّا من “الطِّيَّارة” و”البابور” وسيلةٌ من وسائل الهجرة، إلّا أنّ الأولى تدعو إلى العودة إلى الوطن بكلِّ الوسائل، بينما تدعو الثّانيَّةُ إلى الهروب منه!.. من هذين المِثَالَيْن (وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ) نُدْرِكُ التّحوُّلَ الذي من نتائِجه أنْ شمِلَتْ “الحرڤةُ” حتى النِّساءَ والأطفالَ، وأَصْبَحْنَا نقرأ عن بعض الأمّهات اللواتي تُساعِدْنَ فَلَذَاتِ أَكْبَادِهِنَّ على “الحرڤة”، وأَصْبَحْنَ يتمنَّيْنَ لأولادِهِنَّ الزواجَ من الأوروبيّات، حتّى وإنْ كُنّ عجائز، حتى يتسنّى لهم الحصول على الجنسيّة الأوروبيّة والاستقرار هناك، لقد تَغَيَّرَتْ طَرِيقَةُ تفكيرِ الأمّهاتِ والأُسَرِ، مُقَارنَةً بما عَبَّرَتْ عنه نورة في أُغْنِيَتِها السّابقة عن “بنت الرّوميّة” التي سرقَتْ مِنْهَا ابْنَهَا، أو بِما كانتْ تَتَنَاوَلُهُ الأفلامُ والنُّصُوصُ الشّعريّةُ والرّوائيّةُ في مرحلة السبعينات وبداية الثّمانينات!.. يجِبُ التّخطيطُ الثقافيُّ لإنتاجِ نُصُوصٍ جديدةٍ للاستهلاكِ الشَّبَابي والأُسَرِي.