الإنسان بطبعه ينفر من المرض والعلّة، ويهوى الصحّة والعافية، والقوّة والفتوة، ويكره الشيخوخة والهرم، ويرغب في الشباب والعطاء، وإذا أصيب بمرض بدني، أحس وتألّم وضاق منه الويلات، فسارع إلى الطبيب يترجّاه لإزالة سقمه، ومحو علّته. أمّا وأن يصاب بمرض في قلبه وروحه، فلا أدرك خطورته، ولا أحسّ برعونته، ولا سارع إلى علاجه، ولا عرف الطبيب الّذي يشخصه، ويشفي علّته، بل قد يحسّ باللّذة، ويطمئن، ويهوى ويشتهي، ولا يحسب نفسه أنّه في عداد المرضى المبتلين. ومن هذه الأمراض القلبية الّتي شاعت وأحدثت اضطرابًا كبيرًا في أوساط شرائح من شبابنا وشاباتنا، مرض خطير وفتّاك يعرف بمرض الاكتئاب النّفسي، وهو مرض نفسي خطير، من ظواهره القلق والاضطراب المؤدي إلى الهيجان والغثيان، وقد يصاحبه حالات إغماء وانعزال. والكثير من الّذين أصيبوا بهذا المرض بعد أن عجزوا عن علاجه، يريدون التّخلّص منه بعاقبة لا تحمد عقباها، إماّ بالإدمان على تعاطي المخدّرات أو التّفكير في الانتحار. والقرآن الكريم الخبير بأغوار النّفس الإنسانية له أسلوب ملائم لعلاج مثل هذه الظواهر المرضيّة الناتجة من هذه الأزمات النّفسيّة، وسنعرض لحالة نفسيّة يصوّرها القرآن الكريم مع الفرح والمسّرة وأخرى مع البلاء والأحزان. فأمّا الصورة الأولى، فتتمثّل في أنّ طبيعة الإنسان جُبِلت على طلب المزيد من المتاع والشّهوة، فهي نفس لا تشبع ولا تقنع بالقليل. وإذا ما أنعم الله عليه ومكّن له بتحقيق أمله واستجابة رجائه، انتفخ وانتفش وبلغ به الفرح والبطر والطّغيان، فزعم أنّ ما يرتفع فيه من خصب وخير إنّما مردّه إلى جهوده الشّخصيّة وجهاده الفردي، فيغدو متخيّلا أنّ مكاسبه ستدوم ونعمه لا تزول وعطاياه لا تنقطع ومنصبه وجاهه وسلطانه لا يفارقانه، ثمّ يسرف في تغاليه وانتشائه وبطره، معتقدًا أنّه عندما كان سعيدًا في الدنيا فسيكون سعيدًا في الآخرة، فلا يشقى ولا ينكد. وإلى هذه الصورة الّتي يتخيّلها هذا الصنف من النّاس، يقول القرآن الكريم: {لا يَسْأم الإنسان من دُعاء الخير وإنْ مسَّه الشرُّ فيئوس قَنوط، ولئِن أذقناه رحمة منّا من بعد ضرّاء مسّتْه ليقولَنّ هذا لي وما أظنّ السّاعة قائمة ولئن رجعتُ إلى ربّي إنّ لي عنده للحسنى}. أمّا الصورة الثانية فمع البلاء والأحزان، يستعرض القرآن الكريم علينا حالة نفسية جاء بها ربّ العزّة والجلال في قوله: {ولوْ يُعجِّل الله للنّاس شرَّ استعجالهم بالخير لقُضي إليهم أجلُهم فنَذَر الّذين لا يرجون لقاءَنَا في طغيانهم يعمهون وإذا مَسّ الإنسان الضرّ دعانا لجَنْبِه أو قاعدًا أو قائمًا فلمّا كشفنا عنه ضرّه مَرَّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مَسّه كذلك زُيِّن للمُسرفين ما كانوا يعملون} يونس .12 إنّها صورة أخرى مناقضة للأولى أشدّ قتامة، فهي سوداوية تضيق بصاحبها، فتدفعه إلى الانهيار واليأس والانتحار، فيستعجل الشرّ لأهله وذويه. ولو استجاب الله لدعائه، لكان من الهالكين مع ماله وولده وأهله المقرّبين، ولكنّ رحمة الله ولطفه بعباده يحول دون تحقيق هذه النهاية الأليمة، لأنّه خبير ولطيف بضعف وفقر عباده، ولو كانوا من العُصاة المذنبين. قال سبحانه: {ولو يُؤاخذ الله الناس بظُلمهم ما ترك على ظهرها من دابة}. لقد أفرزت لنا الحياة المعاصرة نتيجة لهذا الفراغ الروحي، أمراضًا وأزمات نفسية كثيرة شاع أمرها وفشا ضررها، لم تكن في أسلافنا السّابقين، كما راج في واقعنا ما يعرف بسوق المصحات والعيادات النّفسية، لعلاج الاكتئاب والأرق والقلق وحالات التشنّج والتوتر والهوس المؤدي إلى الغياب العقلي، بتعاطي الحشيش والأفيون والمخدرات. والعلاج الحقيقي في شحنة الإيمان، ونور القرآن، وهدي سيّد الأنام، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: (إنّ في القلب شعت لا يلمه إلاّ الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلاّ الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلاّ السّرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلاّ الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلاّ الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه فاقة لا يسدّها إلاّ محبّته والإنابة إليه ودوام ذِكره وصدق الإخلاص ولو أعطي الدّنيا وما فيها). * مفتش التوجيه الديني والتعليم القرآني