تقديم العِلم والازدياد منه على كلّ الأمور الأخرى وإن كانت مهمّة: ولا يفعل ذلك إلاّ مَن عرف قدر العلم وفضله، فالعاقل الّذي عرف فضل العلم ومقام أهله لا يرضى من العلم بما حصل بالغًا ما بلغ، بل هو في حرص على الازدياد منه دائمًا كلّما واتته الفرصة، يقول الإمام ابن القيم شارحًا حديث “سَأَلَ مُوسَى ربّه.. أَي عِبَادك اعْلَم قَالَ عَالم لَا يشْبع من الْعلم يجمع علم النَّاس إلى علمه” رواه ابن حبان: [فَأخْبر في هذا الحديث أن أعْلَم عباده الَّذِي لَا يشْبع من الْعلم فَهُوَ يجمع علم النَّاس إلى علمه لنهمته فِي الْعلم وحرصه عَلَيْهِ وَلَا ريب أنّ كَون العَبْد أعظم عباد اللّه من أعظم أوصاف كَمَاله، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حمل مُوسَى على الرحلة إلى عَالم الأرض؛ ليعلّمه مِمَّا علمه اللّه؛ هَذَا وَهُوَ كليم الرَّحْمَن، وَأكْرم الْخلق على اللّه فِي زَمَانه، وَأعلم الْخلق؛ فَحَمله حرصه ونهمته فِي الْعلم على الرحلة إلى الْعَالم الَّذِي وصف لَهُ؛ فلولا أنّ العلم أشرف مَا بذلت فِيهِ المهج، وأنفقت فِيهِ الأنفاس لاشتغل مُوسَى عَن الرحلة إلى الخضر بِمَا هُوَ بصدده من أمْر الأمة، وَعَن مقاساة النصب والتعب فِي رحلته .. فَهَذَا النَّبِي الْكَرِيم كَانَ عَالمًا بِقدر الْعلم وأهله صلوَات اللّه وَسَلَامه]. - تواضع الفاضل للتعلّم ممّن دونه: فإنّ موسى بلا شك أفضل من الخضر؛ لأنّ موسى عليه السّلام من أُولِي العَزم من المرسلين، الّذين منحهم اللّه وأعطاهم من العِلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلّم منه العلم الّذي لم يتمهر فيه، ممّن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة. - إضافة العلم وغيره من الفضائل إلى اللّه تعالى، والإقرار بذلك، وشكر اللّه عليها لقوله: {تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ} أي: ممّا علّمك اللّه تعالى. والاعتراف بالجهل أمام المعلّم كما يشير إليه قول الكليم: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي..}. - أنّ العِلم النّافع هو العلم المرشد إلى الخير، فكلّ علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشرّ، أو وسيلة لذلك، فإنّه من العِلم النّافع، وما سوى ذلك، فإمّا أن يكون ضارًا، أو ليس فيه فائدة لقوله: {أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}. - أهميّة الصّبر في تحصيل العلم والاستفادة من الأستاذ: فمَن لا صبر له يفوته بحسب عدم صبره كثير من العِلم ولا يستفيد من معلِّمه، ومَن استعمل الصّبر ولازمه، أدرك به كلّ أمر سعى فيه، لقول الخضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}، وقول موسى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}. وهذا ينقص كثيرًا من تلامذتنا وطلابنا، ولا بدّ من الانتباه إلى أهميته في نجاح العملية التربوية. - الثِّقة في الأستاذ وتبجيله بما يستحقّ وإحسان الظنّ به، قال النووي: [وفيه من الفوائد: فضيلة طلب العِلم.. وفيه: الأدب مع العالم، وحرمة المشايخ، وترك الاعتراض عليهم، وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم، والوَفاء بعهودهم، والاعتذار عند مخالفة عهدهم]. - مراجعة التلميذ لمعلّمه، حتّى لا تفهم النقطة السّابقة خطأ، إذ ليس المقصود بها التّسليم بكلّ ما يقوله المعلّم من غير مناقشة ومحاولة فهم، بل على الطّالب المناقشة والبحث مع أستاذه لكن بأدب ولطف واحترام، كما تعلّمنا أسئلة موسى للخضر عن الأعمال الّتي ظاهرها النكّارة الشّديدة وباطنها الحكمة السّديدة. فهذه عشر فوائد وحكم كلّ واحدة منها تزن جبلًا، أكتفي بها اختصارًا وتذكيرًا، وللقارئ أن يقلّب الفكر متدبّرًا في معاني هذه الآيات، ويستعين بتفاسير الأئمة الأعلام ليستفيد ما لم يذكر هنا، وهو كثير وفير عظيم. والمقصد التّنبيه على أهمية الأدب في تحصيل العِلم والنّجاح في الدراسة؛ وقد قال الإمام أبو زكريا العنبريّ: [علم بلا أدب كنار بلا حطب]، وأوصى الإمام مالك رحمه اللّه أحدهم فقال: [يا ابن أخي تعلَّم الأدب قبل أن تتعلَّم العِلم]. *إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة