لم تستطع الجزائر رغم "ثورة" شبابها في أكتوبر 1988، من أن تعبد الطريق أمامها نحو التعددية السياسية والانفتاح الاقتصادي والحقوق والحريات الموعودة، بل إن الزمن عاد بها بعد مرور كل هذه السنوات، إلى نفس الظروف التي أنتجت هذا الحدث المفصلي، من أزمة اقتصادية وانسداد سياسي وتوتر اجتماعي. تعود الذكرى اليوم بعد أن أنصفها التاريخ وصارت السلطة نفسها تمنحها وصف "الثورة" بدل "المؤامرة" كحيلة منها لإقناع الجزائريين بتجاهل الربيع العربي، لكنها تعود مثقلة بواقع متأزم على كل المستويات، لا يبشر حقيقة بأن البلاد قد اجتاحتها ثورة ديمقراطية ووضعتها على سكة الدول التي قطعت أشواطا في هذا المجال. ففي الظاهر، تمتلك الجزائر دستورا ومؤسسات منتخبة ومنظومة قانونية وتشريعية، إلا أن كل ذلك في الواقع لا يعدو كونه وفق التوصيف الذي لم يتغير للمعارضة، مجرد واجهة صورية لنظام قائم على الاستبداد والتسلط. ورغم اجتهاد السلطة في نفي هذه النظرة، إلا أن كل هذه السنوات لم تكفها لذلك، بل إن مستوى الديمقراطية بات يتدهور للأسوأ في السنوات الأخيرة، بعد تعديل الدستور لسنة 2008 الذي فتح الباب لعهدات غير محدودة للرئيس، ثم إعادة تعديل هذا الدستور في 2016، بشكل غير توافقي، بعد أن رفضت المعارضة الانخراط في المشروع لأنها لم تعترف بجديته. وفي وقت بدأت دول مجاورة تقدم نموذجا قويا عن الانتقال الديمقراطي، لا تزال الجزائر غير قادرة حتى على تنظيم انتخابات غير مطعون في شرعيتها، وقد شابت كل الانتخابات التشريعية منذ سنة 1997 وحتى الرئاسية شبهة التزوير التي تطرح بجد مشكلة الشرعية التي يراها قطاع واسع من الطبقة السياسية مفقودة أو منقوصة. ومع أن السلطة، حاولت تقديم بعض الضمانات، باعتماد هيئة مستقلة لمراقبة الانتخابات، إلا أن استمرار تحكمها في تنظيم الانتخابات، جعل كل الضمانات تسقط في أعين المتنافسين على المواعيد الانتخابية، مما يجعلهم يطعنون آليا في مصداقيتها. وإذ كان حال المعارضة في كل دول العالم تضخيم أخطاء السلطة، إلا أن الواقع في الجزائر بعيدا عن أعين مناوئي السلطة، بات يبعث على القلق حتى عند المراقبين المحايدين والقوى الإقليمية المجاورة للجزائر. وقد بدأت كبريات الصحف والدوريات الأجنبية تهتم كثيرا لوضع الجزائر، وتطرح السؤال المقلق للسلطة، حول هوية من يحكم ويتخذ القرارات في ظل غياب الرئيس عن المشهد. وبدأ الوضع في الجزائر، على ما يبدو من استقراره الظاهر، يطرح المخاوف عن إمكانية انزلاقه إلى المجهول مستقبلا، مع كل ما يمثله ذلك من أخطار على وحدة الجزائر وعلى استقرار محيطها. وعلى المستوى الاقتصادي تبدو المقارنة قوية بين الوضع الحالي وذلك الذي سبق أحداث أكتوبر، فأسعار النفط خلال السنتين الأخيرتين، انزلقت إلى أدنى مستوياتها مثلما فعلت في 1988، متسببة في أزمة اقتصادية خانقة لا تملك الحكومة إزاءها خيارات كثيرة. ويبدو الفرق الوحيد بين الفترتين أن الجزائر في تلك الفترة كانت لديها مديونية خارجية سرّعت من وتيرة أزمتها أما اليوم فهي متحررة من الدين الخارجي وتملك احتياطي صرف، صحيح أنه تآكل إلى النصف، إلا أن المتبقي منه في حدود 100 مليار دولار صالح لتسيير الوضع مدة سنتين على الأقل. غير أن الإشكال في أن الجزائر لم تعد تمتلك ما تجدد به احتياطاتها من العملة الصعبة، فحجم إنتاجها من النفط ما انفك يتضاءل وقد يصل بها الحال إلى عدم تلبية طلبها الداخلي في العشريات المقبلة. هذا الواقع، سيؤدي بالضرورة، كما يستشرف ذلك كثير من السياسيين، إلى وقوع اضطرابات اجتماعية كانت السلطة تتحكم فيها عبر ما اصطلح عليه "شراء السلم الاجتماعي"، لكنها اليوم لم تعد كذلك، بل إنها ستلجأ إلى إجراءات وضعتها في خانة "الحتمية" غاية في الخطورة على الطبقات المتوسطة والفقيرة، على غرار الإصدار النقدي (طبع العملة دون مقابل إنتاجي)، ومآلاته التضخمية المدمرة على القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما لا يقل خطورة عن مسارات إعادة الجدولة التي أفرزتها أزمة 88، وما تبعها من فاتورة اجتماعية فادحة على مناصب الشغل وارتفاع نسبة الفقر وتدني الخدمات القاعدية في الصحة والنقل والهياكل والبنى التحتية، ناهيك عما ينتظر الجزائريين بفعل غلق منافذ الاستيراد والعجز عن الإنتاج، في استفحال ندرة المواد والسلع الضرورية وعودة الطوابير التي هي أبلغ عنوان للأزمة. والحاصل من كل ذلك، أن الجزائر لم تستفد من درس 1988 في تلافي أزمة سنة 2017، على الرغم من توفيرها احتياطات هائلة من العملة الصعبة على مدار 15 سنة من البحبوحة المالية، تماما مثلما لم تنجح في العبور إلى الديمقراطية الحقيقية بدل ديمقراطية "الواجهة"، بينما بدأت المخاوف تترسب، في خضم ذلك، من ظهور اضطرابات جديدة تعيد الجزائر إلى نقطة الصفر.