على هامش فعاليات الأيام الوطنية المسرحية للأضواء الساطعة في طبعتها الأولى، التي يحتضنها مسرح "عز الدين مجوبي" بعنابة، تواصلت العروض المسرحية منذ انطلاق التظاهرة، في أجواء احتفالية جمعت بين الفرجة والتكوين، واستقطبت جمهورًا متنوعًا من مختلف الأعمار. وقد شكلت هذه الفعالية، نافذة مهمة لاكتشاف طاقات شابة ومواهب مسرحية ناشئة من مختلف ولايات الوطن، في فضاء ركحي يسوده الإبداع والتجديد. من أبرز العروض التي شهدتها التظاهرة، مسرحية "مخ لص"، من إنتاج جمعية "موهوب 4 Art"، أخرجتها سلسبيل بوتشيشة، ووقع سينوغرافيتها نورالدين كريني. جاء العرض برؤية شبابية جريئة، تحاكي الصراع الداخلي في ذهن الإنسان، وتطرح أسئلة الهوية والوعي والازدواجية الفكرية بأسلوب رمزي ومكثف، اعتمد على التعبير الجسدي، والإضاءة كعنصر درامي معزز للحالة النفسية للشخصيات. المسرحية التي خاطبت جمهور الشباب، عبرت بجرأة عن أزمة المعنى والانفصال عن الذات، وسط ضجيج القيم المتضاربة. ولم تُغفل التظاهرة جمهور الأطفال، حيث قُدم العرض المسرحي "الأمير التائه"، من تأليف وإخراج حفيظ آيت الحاج، وإنتاج الجمعية الثقافية لمسرح الغد براقي. العمل جاء في قالب حكاية خيالية، تدور حول أمير صغير تاه عن مملكته، وراح في رحلة استكشاف نحو القيم الأصيلة والشجاعة والمعرفة. بلغة سلسة وسينوغرافيا ملونة ومشاهد تفاعلية، استطاع العرض أن يربط الطفل بعالم المسرح عبر بوابة الحكاية التربوية، دون أن يتنازل عن البعد الرمزي والرسالة الفنية. كان الموعد كذلك مع عرض مفعم بالدلالات الوطنية، بعنوان "زيتونة لا تنحني"، من تأليف وتمثيل إيناس عدي، وإخراج وكوريغرافيا محمد حضري، وإنتاج جمعية "منارة الأمل" لدعم الشباب والمواهب. المسرحية التي خاطبت وجدان الأطفال، حكت قصة شجرة زيتون تتعرض لمحاولات اقتلاع، لكنها تصر على البقاء والتجذر في الأرض، في رمزية واضحة للمقاومة والهوية والانتماء. وقدم العرض توليفة بين التمثيل والحركة والرمز، مكنته من حمل رسالة عميقة بلغة بسيطة وشاعرية. ولم تكتفِ التظاهرة بتقديم العروض فحسب، بل أدرجت ضمن برنامجها ثلاث ورشات تكوينية، مست الجوانب الأساسية للعمل المسرحي، لتجعل من الحدث مناسبة شاملة تجمع بين التلقي والتكوين. كانت البداية مع ورشة الكتابة المسرحية، التي امتدت ليومين، وشملت تدريب المشاركين على تقنيات صياغة النص المسرحي، وبناء الشخصيات، والحوار، والصراع، مع ترك مساحة حرة للتجريب والإبداع الفردي. وقد شكلت هذه الورشة أرضية أولى لاحتكاك الشباب بعالم التأليف، وتعرفهم على ديناميكيات الكتابة للخشبة. أما ورشة التمثيل، فركزت على أدوات الممثل: التحكم في الجسد، الصوت، التعبير الوجداني، الإلقاء والتعامل مع الفضاء الركحي. من خلال تمارين تطبيقية وألعاب درامية، تمكن المشاركون من تعزيز ثقتهم في الأداء، واستكشاف طاقاتهم التعبيرية، في تجربة مسرحية مصغرة على الخشبة. فيما خصصت ورشة السينوغرافيا للتكوين في الجوانب البصرية للعرض المسرحي، من ديكور وإضاءة وملابس، حيث تعرف المشاركون على أهمية الصورة الركحية، وتعلموا كيفية تصميم فضاء مسرحي بسيط يخدم الرؤية الإخراجية. الورشة دمجت النظري بالعملي، وأتاحت للمواهب فرصة التفاعل مع بعد فني قلما يُتاح للهواة. لقد أثبتت الأيام الوطنية المسرحية للأضواء الساطعة، من خلال تعدد العروض وتنوعها، وإدراجها الجانب التكويني، أن المسرح لا يزال ينبض في المدن الجزائرية، ويملك قدرة على استقطاب الأجيال الجديدة، سواء كمتفرجين أو كمبدعين. كانت عنابة على موعد مع مسرح يضيء القلوب والعقول، ويبعث الأمل في ركح جزائري، لا يزال يكتب فصوله بإبداع وتحدٍ.