نكبة عظيمة تعيشها أمّة الإسلام في هذه السّنوات وخاصّة في الأشهر والأسابيع والأيام الأخيرة.. كيف لا ودول المسلمين أصبحت أضحوكة بين أمم العالم، تتناحر ويتربّص بعضها ببعض ويكيد حكامها وأمراؤها بعضُهم لبعض، لأجل مطامع دنيوية تسوّغ لهم كلّ الوسائل التي تمكّنهم من الاستئثار بالملك والحكم، في الوقت الذي يمضي الصليبيون قدما في تنفيذ مخطّطاتهم في السّيطرة على العالم الإسلاميّ والحيلولة دون عودة أمّة الإسلام إلى سابق عهدها.. ويمضي اليهود الصهاينة بخطوات متسارعة لفرض سيطرتهم على أرض فلسطين المباركة وعلى بيت المقدس والمسجد الأقصى.. لقد بلغ الحدّ بالصّهاينة أنّهم تجرؤوا على إغلاق بوابات المسجد الأقصى في وجه المصلّين ومنعوا إقامة صلاة الجمعة فيه، ولولا أن قيّض الله لهم رجالا صادقين من أبناء القدس نحسبهم كذلك، رابطوا أمام المسجد المبارك واستنفروا الجموع، لربّما أصبح المسجد رهينة عند اليهود، يقيمون فيه شعائر التوراة ووصايا التلمود. نعم، لقد أعيد فتح بوابات المسجد الأقصى، لكنّ محنته لم تزل بعد، وربّما ستطول وتتعاظم، ما دامت الأمّة تعيش هوانا لم تبلغه من قبل.. سببه بعض الملوك والحكام الذين باعوا دينهم بدنياهم وأفسدوا دين الأمّة ودنياها، وباعوا قضايا الأمّة مقابل بقائهم في مناصبهم وعلى عروشهم.. وسببه أيضا صنف من العلماء ينطقون بما يرضي الحكّام، ويجدون المبرّرات لخيانات لا يمكن أن يبرّرها إلا من باع دينه بدنياه، وآثر سلامة الدنيا على سلامة الدين والآخرة.. يبرّرون ما لا يبرّر ويمهّدون لنكبة من أعظم النّكبات، تبدأ بربط الحبال والعلاقات مع العدوّ الصّهيونيّ المحتلّ، وربّما لن تمرّ سوى سنوات قلائل حتى يصبح الحديث عن العدوّ الصّهيونيّ ممنوعا في بعض دول المسلمين، ويغدو قتاله وجهاده على ثرى الأرض المباركة إرهابا!.. من كان يظنّ أن يخرج علماء ودعاة كان يشار إليهم بالبنان ليبرّروا خذلان بعض الحكّام للمسجد الأقصى المبارك، ويبرّروا قبل ذلك اتّهام أحرار الأمّة الذين يقارعون الصهاينة والصليبيين بتهم يمليها "ترامب" على بعض حكام المسلمين؟. نعم، محنة الأمّة في ملوكها وحكامها محنة عظيمة لا يجوز أبدا أن يُغض عنها الطّرف أو يدعى للتّقليل من شأنها، كيف ونبيّ الهدى -صلّى الله عليه وسلّم- دلّ على أنّ السّلامة في إنكار ما يفعلون، ففي صحيح مسلم عن أمّ سلمة –رضي الله عنها- أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرَف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا".. محنة الأمّة في بعض حكّامها محنة عظيمة، ومحنتها في بعض علمائها أيضا محنة عظيمة لا يجوز وما عاد يصحّ أو يصلح أن يستهان بها، لكن.. هل تنتهي محنة الأمّة عند حكامها وبعض علمائها الذين آثروا الفاني على الباقي؟ وهل نحن معاشر المسلمين لا نتحمّل أيّ مسؤولية في هذا الهوان الذي آلت إليه أمّة الإسلام؟ لا، والله، نحن معاشر المسلمين أيضا نتحمّل مسؤولية كبيرة في هذا الذي تعيشه أمّة الإسلام، لأنّنا إلا من رحم الله منّا آثرنا الدّنيا على الآخرة، ونسينا ديننا وجعلنا له فضول همومنا وأوقاتنا وأموالنا؟ أصبح ديننا وأصبحت قضايا أمّتنا في آخر اهتمامنا، لا نكاد نهتمّ بها، وإن اهتممنا لم يتجاوز اهتمامنا الكلام.. تمرّ بأمّتنا أوقات حرجة تُستهدف فيها مقدّساتنا، ومع ذلك لا نراجع أحوالنا ولا نتداعى للعودة إلى ديننا وإصلاح أحوالنا وتدارك تفريطنا في حقّ ديننا وتقصيرنا في حقّ خالقنا. يقول نبيّ الهدى -صلى الله عليه وسلم- وهو يصف حال أمّته في زمان لعلّه زماننا هذا، يقول: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت". لنكنْ صرحاء ونحن نرجع الطّرف إلى واقعنا وأحوالنا.. في تلك الأيام التي أغلقت فيها بوابات المسجد الأقصى، ومُنع المصلون دخولَه ولم تُقم فيه الجمعة، ما الذي كان يشغلنا؟ وكيف كانت أحوالنا؟. نحن لا نعمّم، لكنّ الواقع شهد أنّ بعض الأسر كانت تسهر الليالي في مهرجانات الغناء والرقص في تيمقاد وجميلة والكازيف.. كانت أصوات الغناء المنكرة بكلماتها الهابطة تدوّي في حفلات أعراسنا إلى ثلث اللّيل الأخير.. كانت نساء وبنات بعضٍ منّا يخرجن في مواكب الأعراس في كامل زينتهنّ بعد أن تخلّين عن حجاباتهنّ، يصفّقن ويتمايلن على وقع الموسيقى الصاخبة التي تصدح بها مسجلات السيارات التي يقودها شباب لا مكان في حساباتهم لحياء أو حرمة.. كانت كثير من الأسر تستجمّ على الشّواطئ حيث يكشف كثير من الرّجال عن أفخاذهم وتُلقي كثير من النّساء حجاباتهنّ... الصّهاينة يعبثون بالأقصى لأنّهم رأوا كيف أنّ كثيرا من نساء المسلمين ما عاد الدّين يمثّل بالنّسبة إليهنّ شيئا.. رأوا كيف أنّ كثيرا من نسائنا وفتياتنا ما عدن يتحمّلن القرار في البيوت، يخرجن بسبب ومن دون سبب وفي كلّ وقت، يخرجن متبرّجات مصبوغات متعطّرات مائلات ضاحكات مقهقهات.. يجبن الشّوارع ويطفن في الأسواق ويزاحمن الرّجال ويشاحنّ ويضاحكن ويمازحن الباعة والتجّار، ويدخلن إلى محلات الأكل السريع ومحلات البيتزا ليملأن بطونهنّ وكأنّهنّ مشرّدات لا يملكن بيوتا يأوين إليها!.. أصبح الحديث عن الصّلاح وعن الحجاب الواسع وعن الوقر في البيوت وعن حني الرّأس والقصد في المشية وعن غضّ البصر وخفض الصّوت، وعن تربية الأبناء وطاعة الأزواج.. أصبح الحديث عن هذه الأمور لا يعني كثيرا من نسائنا أبدا، بل ربّما تسخر بعضهنّ من الحديث في هذه المواضيع والله المستعان. ليست النّساء وحدهنّ من يتحمّل مسؤولية ما آلت إليه أحوالنا وأوضاعنا.. الرّجال أيضا يتحمّلون مسؤوليتهم، بل إنّ المسؤولية الأهمّ هي مسؤولية كثير من الرّجال الذين تخلّوا عن واجبهم واستقالوا عن مهامهم وتنازلوا عن قوامتهم، وألقوا الحبل على الغارب لنسائهم وبناتهم وأبنائهم، ما عاد يهمّ كثيرا منهم إلا أن يوفّروا حاجيات بيوتهم من المطاعم والمشارب والملابس، ليخلدوا بعدها إلى السّبات ويغيبوا عن الواقع ويغضّوا أبصارهم عمّا تقترفه الزّوجات والبنات وعمّا يجنيه الأبناء. ليس كلّ النّساء كمن وصفنا، وليس كلّ الرّجال كمن ذكرنا.. فهناك بيننا في هذا البلد وفي كلّ رقعة من بلاد الإسلام رجال بحقّ لا يتنازلون عن قوامتهم ولا يرضون الدنية لنسائهم وبناتهم، وهناك بيننا في بلادنا هذه وفي كلّ رقعة من بلاد الإسلام نساء مؤمنات يتقين الله، ولا يرضين الهوان لأنفسهنّ.. لكنّنا جميعا مدعوون لمراجعة أحوالنا مع ديننا وقضايا أمّتنا، فربّما نكون سببا لما تعيشه أمّتنا من ذلّ وهوان، فنحاسب بين يدي الله الواحد الديان، حسابا تفرق له القلوب ويشيب له الولدان.