أصعب موقف في حياة الرسول اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي من أول لحظة جهر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد والإسلام تعرض للأذى والبلاء من قومه فكذبه وعادوه وبعد أن كانوا يسمونه الصادق الأمين قالوا ساحر أو مجنون ولقي منهم ما لقي من الإيذاء ووصل بهم الأمر أن وضعوا سلا الجزور (اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وهي من الآدمية المشيمة) على ظهره وهو ساجد يصلى وحاصروه في شعب أبي طالب هو وأصحابه ثلاث سنين حتى أكلوا ورق الشجر وجلود الميتة. وفي السنة العاشرة من البعثة النبوية ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه وتؤازره وتمسح عنه الحزن والألم وتعينه على إبلاغ رسالته وتشاركه آلامه وآماله ومن ثم كان لموتها الأثر البالغ عليه فحزن صلى الله عليه وسلم عليها حزناً شديدا. وقد شاء الله عز وجل في نفس عام موتها العاشر مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه ويدافع عنه فزاد عليه البلاء وتجرأ عليه السفهاء ونالوا منه ما لم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب ومع هذا فقد مضى صلوات الله وسلامه عليه في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة.. ولثلاثة أشهر من موت أبى طالب وخديجة رضي الله عنها توجه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى الطائف سيراً على قدميه ذهاباً وعودة حيث توجد قبيلة ثقيف وكان ممن قابلهم ودعاهم للإسلام ثلاثة من زعماء ثقيف وأشرافهم وهم: ابن عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير فقال له ابن عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط (سيقطع) ثياب الكعبة إن كان الله أرسله وقال مسعود: أمَا وجد الله أحدًا غيرك؟! وقال حبيب: والله لا أكلمك أبداً إن كنتَ رسولاً لأَنْتَ أعظم خطراً من أن أردَّ عليك الكلام ولئن كُنْتَ تَكْذِبُ على الله ما ينبغي أن أكلمك. وأقام صلى الله عليه وسلم في الطائف عدة أيام لم يترك أحدًا إلا دعاه إلى الإسلام فتطاولوا عليه وطردوه ثم أغروا به سفهاءهم فلاحقوه وهو يخرج من الطائف يسبّونه ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان وحاول زيد بن حارثة رضي الله عنه أن يحمي النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصيب في رأسه ولم يزل السفهاء يرمونهما بالحجارة حتى لجأ النبي صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه إلى حائط (بستان) لعتبة شيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف فرجعوا عنهما. ويصور الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه مدى شدة ما فعلت ثقيف وقسوتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد ويبعد عن الطائف حوالي خمسة وثلاثين كيلو مترًا) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملَك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا). وقد رُوي في الكثير من كتب السيرة النبوية أنه في ظل هذه الغمرة من الأسى والحزن والألم النفسي والجسدي وفي أثناء رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف توجه إلى ربه بدعائه المشهور: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي..). فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (لما تُوفِّيَ أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعوهم إلى الإِسلام فلم يجيبوه فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس (استهانتهم واستخفافهم بشأني) يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكِلني (تتركني)؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِي (يلقاني بغلظة ووجه كريه)؟ أمْ إلى عدو ملَّكْتَه أمْري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك لك العُتبى (الاسترضاء) حتى ترضى ولا قوة إلا بالله) رواه الطبراني في الكبير والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وذكره ابن هشام وغيره في السيرة النبوية وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات . وقد ضعف الألباني وغيره هذا الحديث غير أن الكثير من العلماء قديماً وحديثاً يوردونه في كتبهم وتصنيفاتهم في السيرة النبوية وما زال بعض العلماء يتسمَّح في رواية الأحاديث اليسيرة الضعف في أبواب السِيَر والمغازي والتي لا يترتب عليها حكم شرعي مع الإشارة إلى ضعفها ثم إن كثيراً من أهل العلم تناقلوا هذا الحديث: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي) مستشهدين بما ورد فيه من معان كشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة العبودية وفي مجموع الفتاوى قال: وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل.. وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي..). وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه .