بقلم: مصطفى الفرحات* في قمة فالداي العالمية رقم 28 التي انعقدت مؤخراً في سوتشي بشّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعالم متعدد الأقطاب في إشارة منه إلى انتهاء الزعامة الأمريكية على العالم وأن هناك دوراً صاعداً لمنافسين آخرين على تلك الزعامة فبعد الانسحاب من أفغانستان وتقليص نفوذها في العراقوسوريا وإدارة الظهر للكثير من بؤر التوتر حول العالم بدت الولاياتالمتحدةالأمريكية كالمسن الذي خرج إلى التقاعد دون توقيع براءة ذمته وأصبح من الصعب على القادة الأمريكيين حشد تأييد شعبي لأي حرب جديدة في المنطقة. هذا الخروج الأمريكي المبكر على المعاش أغرى الكثيرين لملء الفراغ واستعادة أمجاد كانت ضائعة من روسيا إلى الصين وصولاً إلى إيران. ولنبدأ بإيران التي تشكل الحلقة الأضعف في تحالف (موسكو – بكين – طهران) فقد قرأت إيران التحول في السيكولوجية السياسية للحالة الأمريكية هذه وذهبت بعيداً في السير نحو طموحها في استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية واستغلت الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي لترفع درجة تخصيب اليورانيوم من 3.67 في المئة إلى 20 في المئة ومن ثم إلى 60 في المئة على خلفية استهداف منشأة ناطنز النووية حيث أكدت إيران أن إسرائيل هي من يقف خلف هذا الاستهداف. وكان رفع درجة التخصيب إلى 60 في المئة هو رد وتحد من قبل إيران لإسرائيل ورسالة ضغط أرادت إيران توجيهها إلى الفرقاء الغربيين بأن إيران قوية ولديها تحالف استراتيجي مع كل من روسياوالصين وبالتالي فإن عودتها للمفاوضات النووية ليست بجعبة خالية بل لديها من عوامل القوة ما يسمح لها بالجلوس على طاولة الكبار واللعب معهم حتى. *سياسة اللعب على الحافة صحيح أن سلاح العقوبات الأمريكي قد أرهق الاقتصاد الإيراني إلا أن طهران استمرأت سياسة اللعب على الحافة وسياسة التحايل على العقوبات وبشكل خاص أنها تملك حدودا مفتوحة للعبور من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط بضفتيه اللبنانية والسورية من خلال ميليشياتها الولائية المنتشرة من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا والتي كسرت من خلالها الحدود بين هذه الدول وبالتالي سمحت بحرية الحركة والنقل بكل أنواعه من نقل السلع والبضائع إلى نقل شحنات الأسلحة والذخائر بما فيها العبور الحر لهذه الميليشيات فضلاً عن تشاطئها على الخليج العربي والذي لا تعترف بعروبته أصلاً وتسميه ( الخليج الفارسي. لقد سجلت إيران العديد من الأهداف في المرمى الأمريكي وقد أصبح يخيل للمتابع بأن إيران أصبحت قوة عظمى وهي ليست كذلك لكن غض الطرف الأمريكي عن التمادي الإيراني لصالح انشغال واشنطن بقضايا استراتيجية أكبر حفز طهران نحو المضي قدماً في مشروعها التوسعي. ومن الأهداف التي سجلتها إيران هي احتجاز السفن العابرة في الخليج العربي وتعريض أمن الملاحة هناك للخطر فضلاً عن تحرش الزوارق الحربية الإيرانية بسفينة أمريكية وقبلها قيام إيران بإسقاط طائرة استطلاع أمريكية وحتى تحريك ذراعها الحوثي في اليمن لاستهداف المنشآت النفطية السعودية ذات الطابع الدولي. وفي العراق كانت الأذرع الولائية التابعة لإيران تستهدف المواقع الأمريكية وحتى محيط السفارة الأمريكية في بغداد. ومؤخراً انتقل التصعيد الإيراني ضد مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الساحة السورية حيث تم استهداف قاعدة التنف المشغولة بالقوات الأمريكية بالمسيّرات والصواريخ ورغم عدم اعتراف أي جهة بهذه العملية إلا أن واشنطن على دراية كاملة بالفاعل واللافت أن واشنطن احتفظت بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين حسب التصريح الأمريكي. وبالأمس القريب احتفلت إيران بذكرى احتلال السفارة الأمريكية في طهران بمؤتمر شعاره أفول أمريكا مذكرة بالهزائم الأمريكية في أفغانستانوسورياولبنان وبتقليص النفوذ الأمريكي في العراق لصالح أنصارها هناك. *أمريكا والعملاق الصيني أما بالنسبة للعودة للاتفاق النووي فقد رفضت إيران الشروط الأمريكية واشترطت العودة أن تكون إلى اتفاق 2015 كأساس للحل مع رفع كل العقوبات وطلب ضمانات من الإدارة الأمريكية بعدم العودة إليها مرة أخرى. ورفضت إيران التطرق إلى مسألتي البرنامج الصاروخي والتمدد في المحيط العربي واعتبرت هاتين المسألتين لا دخل لهما بالمفاوضات النووية. حتى دمية إيران (بشار الأسد) بدأ يتحدث عن مواجهة الوجود الأمريكي في سوريا. ففي خطابه في حفل تخريج دورة القيادة والأركان الأخيرة توعد الأسد بمحاربة الولاياتالمتحدةالأمريكية وهزيمتها ب الصمود الإيجابي !! وقال إنه قد ينتقل من حالة الصمود الإيجابي إلى الهجوم معتبراً أنه بعد هزائم الولاياتالمتحدة في أفغانستان سيكون هناك المزيد من الحروب والمزيد من الهزائم وسيبقى الدولاب يدور في الإطار نفسه حسب رأيه. هذا بالنسبة لإيران أما بالنسبة لروسيا فقد استطاع بوتين انتزاع اعتراف أمريكي بوجوده على المياه الدافئة المتوسطية من خلال القاعدة الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس كما استطاع تعطيل مشاريع القرارات الأمريكية في مجلس الأمن بالفيتو الروسي والصيني المساند له الذي يخص القضية السورية والذي استخدمه الروس ست عشر مرة ورغم أن الكثير من المتابعين يعتقدون بأن الاستخدام الروسي للفيتو قد أراح واشنطن من عبء التدخل في متاهة الحل السوري وقد رمت الولاياتالمتحدةالأمريكية الحمل الثقيل للآخرين أيضاً لصالح قضايا استراتيجية تهمها أكثر من جزئيات التفاصيل السورية برمتها. يؤكد الكثير من المتابعين بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية لاتزال القوة العظمى الأولى رغم تبشير بوتين بعالم متعدد الأقطاب ورغم تذكيره المستمر بان روسيا قوة نووية إلا أن الميزان العسكري والاقتصادي والاستراتيجي الأمريكي لا يمكن مقارنته مع نظيره الروسي وأن غض الطرف الأمريكي عن جزئيات الفعل الإيراني والروسي كون الولاياتالمتحدة تعد العدة لمواجهة العملاق الصيني الآخذ في النمو الاقتصادي وحتى العسكري وما تشكيل واشنطن لحلف اوكوس الذي ضم كلا من الولاياتالأمريكية وبريطانيا وأستراليا ذي الطابع الأمني والمعني بتصنيع الغواصات أيضاً إلا تمهيد لوضع حد للتمدد الصيني وبشكل خاص أن هذا الحلف يتيح لواشنطن حرية التواجد في المحيط الهادئ والمناطق القريبة من الصين. وحتى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يفسره الكثيرون على أنه سيضر بإيرانوروسيا اللتين هرعتا لعقد مؤتمر دول الجوار الأفغاني تحسبا وخوفاً من تمدد التطرف نحوهما.