سيدي الرئيس إن ابنك اشترى قطعة أرض في أقصى شمالي البلاد.. ما المشكلة في ذلك؟ هو مواطن ويحق له ما يحق لغيره.. لكن ابنك سيدي الرئيس اشترى قطعة أخرى في أقصى جنوبي البلاد.. ما وجه الاعتراض على ذلك؟ إنه مواطن يجري عليه ما يجري على غيره.. الطامّة يا سيدي أن المحروس يرى الوصل بين قطعتي الأرض حقا شرعيا له، وبالتالي راح يستولي على جميع الأراضي الفاصلة بين الشمال والجنوب. إنها طرفة سياسية من بنات أفكار شعب عربي كان له رئيس صار مخلوعا، وكان له ولدان مدلّلان عزيزان على قلبه.. كانا يصولان ويجولان في البلاد طولا وعرضا، أحدهما في السياسة وما حولها، والثاني في المال والعقار والتجارة والاستيراد، وإن كان الولدان وجهين لعملة واحدة هي فساد والدهما ونظام حكمه. طرفة سياسية تختصر المشهد العام في عدد معتبر من الدول العربية مشرقية كانت أم مغربية.. ذلك المشهد الذي تحالف فيه الفساد مع الاستبداد وخيّم عليه، في عدد من الحالات، ذلك الانصياع شبه الكامل للقوى الأجنبية، حتى لا نقول العمالة والعمل بالوكالة.. ومع توالي السنين تفاعلت المواد المكوّنة للمشهد، وتراكمت الرداءة في مجالات كثيرة، واستعانت الشعوب المقهورة بكميات هائلة من الصبر باسم بناء الوطن تارة، وشعارات المقاومة والصمود تارة أخرى، والرفاهية والرخاء المنشود قبل وبعد ذلك.. ودون سابق إنذار انطلقت الشرارة بعد نفاذ مخزون الصبر، فوجدت شعوب عربية نفسها في الشارع تنادى بالتغيير والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكان العنوان الذي يلخص جميع المطالب هو رحيل الوجوه القديمة التي سئمها الناس من خلال خطاباتها وبرامجها الفاشلة. نعم بادرت الشعوب إلى الشارع لافتكاك حقوقها عبر ثورات سلمية، لكن الاستبداد أصرّ على صبغها باللون الأحمر، وكان يسيرا أن تظل تحركات الشعوب بريئة صافية لو وجدت تجاوبا من الجهات المعمّرة على كراسي الحكم، لكن ما بدأ يحدث أن القوى الكبرى تداركت ما فاتها واستفاقت من هول المفاجأة الأولى، فراحت ترسم الخطط والمكائد وتعمل جاهدة على توجيه الأحداث نحو مصالحها. ربما كان الإعلام الجديد هو العنصر المثير في الأحداث العربية الجارية، بل كان اللاعب الأساسي في بعضها، ولابد من التسليم أنه تخطّى دوره التقليدي في نقل الخبر وتحليله إلى التوجيه المباشر، ومن هناك تباينت قيم الحياد والمهنية والموضوعية من وسيلة إعلام إلى أخرى.. والخلاصة أن المشهد الإعلامي كان، ولا زال، معركة حامية الوطيس استعملت فيها أطرافٌ عديدةٌ جميعَ الأسلحة المشروعة منها والممنوعة على حدّ سواء، وحتى الممجوجة المستهلكة كما حدث مع بعض القنوات الفضائية التابعة لأنظمة مستبدة. وحتى نسمي المسميات بأسمائها لا بد من الحديث عن قناة الجزيرة القطرية تحديدا لأنها القناة الأكثر شهرة والأوسع متابعة بين المشاهدين العرب، تلك القناة التي اختلفت الآراء حولها بشدة في هذه المرحلة أكثر من المراحل السابقة، ولعل تقلّبات البعض مع الجزيرة يلخصه موقف أحد جيراني الذي كان متابعا متحمّسا لأخبار القناة وتغطياتها، لكنه فاجأني مؤخرا، ودون مقدمات، بقوله: ليت قنبلة تسقط فوق الجزيرة فتريحنا منها. استمعت إليه بهدوء وقلت له: دعني أزدك من الشعر بيتا.. هبْ أن دولة قطر أيضا اختفت من الخارطة تماما عبر ظاهرة طبيعية غريبة، ولم يعد في العالم العربي دولة بهذا الاسم.. لكن هل تتغير الحقائق على الأرض؟ هل تتبدل الأحداث والمسميات فتنقلب الإخفاقات إلى إنجازات، والعمالة إلى بطولة، والسلب والنهب والفساد إلى رشد وإصلاح في الأرض، والتوريث في الأنظمة الجمهورية إلى ديمقراطية راقية تنافس ما تعرفه فرنسا واستراليا والولايات المتحدة؟!!.. عام ألفين وخمسة نشرتُ مقالا تحت عنوان »هل الجزيرة في قطر أم قطر في الجزيرة؟«، ورد فيه الآتي: »ومهما قيل عن قناة الجزيرة وأثير حولها من شبهات، وحتى لو كشف المستقبل عن شيء مريب في تركيبة الجزيرة، ومهما كانت نوايا وأغراض من أسسوها، فقد صارت ظاهرة إعلامية قائمة بذاتها، ومن المؤكد أن أي باحث منصف خلال العقود القادمة، وهو يكتب عن الإعلام العربي في هذه المرحلة لن يستطيع إغفال باب أو فصل أو حتى مبحث في رسالته العلمية، وهو: الإعلام العربي قبل قناة الجزيرة، وبعده مباشرة باب أو فصل أو مبحث عنوانه: الإعلام العربي بعد ظهور قناة الجزيرة. وعلى العموم فإن دولة مثل قطر استطاعت أن تُخرج للعالم العربي، في زمن الانكسار والتخلف، قناة إخبارية حرَفيّة صارت تنافس قريناتها من كبريات محطات الأخبار الدولية«. دعونا نفترض أن قناة الجزيرة توقفت فجأة إثر فضيحة مدوية، كما يتمنّى البعض، أو قرار غير متوقع، كما يحلم آخرون.. ودعونا نتفرّس ذلك الفرح الطفولي على وجوه بقايا الأنظمة العربية المستبدّة.. لكن.. ماذا بعد؟.. هل يتحول حكم نظام العقيد معمر القذافي الطويل إلى سنوات رخاء وعدل وديمقراطية تغار منها بريطانيا العظمي وأحزابها السياسية العريقة؟ وهل يتحول شتم العقيد لشعبه إلى قصائد غزل ومدح وإشادة؟ وهل تتحول فضائح الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى فضائل تفتخر بها الأجيال العربية بعد أن تُقرّر في المناهج الدراسية؟ وهل يتحول الرصاص الحيّ الذي حصد العشرات في صنعاء وعدن إلى أزهار حب كان الرئيس علي عبد الله صالح يلقيها على شعبه بعد ثلاث وثلاثين سنة من الحكم المتواصل. ما تفعله الجزيرة أو غيرها قابل للنقاش والأخذ والرد، لكن دون هروب مقصود ومدروس عن جوهر الحالة العربية الراهنة.. والجوهر أننا أمة مؤهلة للديمقراطية والحرية والعدالة مثل باقي أمم الأرض، والجوهر أيضا أن الإعلام العربي قد شبّ عن الطوق وبلغ مرحلة الفطام، بل البلوغ ومن ثم الشباب والرجولة.