يقول ابن عطاء الله السكندري: ”قربك منه أن تكون مشاهداً لقربه، وإلا فمن أين أنت ووجود قربه”. قرب الله من العبد له معنيان اثنان، أحدهما عام يشمل الناس جميعاً، والثاني خاص بعباده الصالحين. أما المعنى الأولى فهو ما يعبر عنه البيان الإلهي في مثل قوله تعالى: ” اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ”(الرعد 13) وفي مثل قوله عز وجل: ” ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ”(ق: 16). إنه القرب الذي يترجمه علم الله بالإنسان: ظاهره وباطنه، سرَّه وعلانيته. وأما المعنى الثاني، فهو ما يعبر البيان الإلهي في مثل قوله عن سيدنا موسى: ”وألْقَيتُ عَليْكَ محبَّةً منِّي ولِتُصْنعَ على عيْنِي”(طه) وفي قوله خطاباً لكل من هارون وموسى: ”ولاَ تخافاَ إنَّني مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرَى”(طه). إنها هنا معية تكريم ونصر وحماية وتأييد وهي كما تعلم، خاصة بالرسل والأنبياء وبعباده الصالحين وأوليائه المقربين. بهذين المعنيين يفسر قرب العبد من الله عز وجل؟ إن المعنى الوحيد الذي ينبغي أن يفسِّر به قرب العبد من ربه، علمه بأن الله قريب منه، بالمعنى الأول، أي علمه بأن الله بصير به مطلع على سرّه وعلانيته، لا يخفى عليه منه شيء، سواء أسرَّ القول أو جهر به، يعلم خائنة عينيه وما ينطوي عليه صدره. فإذا علم العبد ذلك، واستقر هذا العلم في ذاكرته، حمله ذلك على مراقبة الله ودوام ذكره فما يتقلب في أمر من أمور دنياه، وما يعرض لحال من أحوال معيشته، وما يوفق لطاعة، أو تزل به القدم إلى معصية، إلا ويصحو إلى علم الله بحاله واطلاعه على ما خفي وما ظهر من أمره، وتلك هي حقيقة مراقبة العبد للرب سبحانه وتعالى، وهذا يتفق مع ما قاله ابن عطاء في الحكمة التي قبل هذه، من أن الوصول إلى الله هو الوصول إلى العلم به، وإنما القرب والوصول هنا بمعنى واحد، وقد علمت أن الوصول إلى الله ليس له نهاية يقف عندها العبد، ومن هنا كان التعبير بالقرب أبعد عن الإيهام، وأكثر انسجاماً مع المعنى المراد. وأعود فأؤكد ما قلته لك في شرح الحكمة السابقة، من أن علم العبد بقرب الله منه، بالمعنى الأول الذي ذكرته لك، مدخل إلى مرقاة لا نهاية لدرجتها، في نطاق السلوك إلى الله، فالعلم بالله هو بوابة السلوك إليه، وهو المعنى الذي لا بديل عنه لقرب العبد من الله. ولسلطان العلماء، العز بن عبد السلام، كلام دقيق في بيان الأحوال السلوكية الناشئة عن معرفة صفات الله عز وجل .يقول: ”اعلم أن الخوف ناشئ عن معرفة شدة النقمة، والرجاء ناشئ عن معرفة سعة الرحمة، والتوكل ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضرر والنفع والخفض والرفع، والمحبة تنشأ تارة عن معرفة الإحسان والإنعام، وتارة عن معرفة الجلال والجمال، والمهابة ناشئة عن معرفة كمال الذات والصفات، وكل واحدة من هذه الأحوال، حاثة على الطاعة التي تناسبها..” ثم قال رحمه الله: ”ولا يمكن اكتساب هذه الأحوال في العادة باستحضار المعارف التي هي منشأ لهذه الأحوال”.. ثم إن الشطر الثاني من هذه الحكمة، جاء هكذا في كل النسخ التي رأيتها ”وإلا فمن أنت ووجود قربه” وقد كنت أتوقع أن تكون ”وإلا فأين أنت من وجود قربه” إذ هذا هو النسق الذي يتفق مع المعنى الذي يريد أن يعبر عنه المؤلف والله أعلم. والمعنى الذي ينسجم مع الشطر الأول من هذه الحكمة، هو: إن لم يكن معنى قربك منه أن تكون مشاهداً لقربه منك، فأين أنت من أن تتمكن من إيجاد أسباب قربك أنت منه؟ أي أنت أعجز من ذلك. ذلك لأنك قد علمت أن القرب بمعنى الدنو المكاني المتمثل في قطع المسافة مستحيل على الله تعال ، فأنى لك أن تقطع مسافة للوصول إليه أو للدنو منه؟.. وقد علمت أيضا أن الإحاطة بالكون كله -وأنت جزء منه- إنما هي صفته، فهو لا أنت المحيط بالأكوان العليم بالظواهر والبواطن، البصير بخلجات القلوب ووساوس النفوس.كما قد علمت أنه هو الذي يرعاك ويكلؤك بمعاقبته ويحميك من الآفات كلها بألطافه، فهو القريب منك بذلك كله، وهيهات أن تنوب في شيء من ذلك منابه، فتكون أنت المحيط بكل شيء، وأنت الذي إليه رعاية كل شيء..إذن فأنت محط علم الله بك ظاهراً وباطناً، وأنت محط عنايته بك ورعايته لك.أنت جرم وجودك حيث أقامك الله، عبد تتحرك داخل قبضة الله، فهو، لا أنت ، الذي يمتعك بنعيم قربه منك، ولولا فضله عليك في ذلك لما كان لك من سبيل إلى هذا النعيم، ولما تأتّى منك أي سعي إلى ذلك.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي