التوقيع على برنامج عمل مشترك لسنة 2024-2025 بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    العدوان الصهيوني على غزة : أكثر من 10 آلاف شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض    فلسطين: ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على غزة إلى 34 ألفا و 596 شهيدا    أكثر من مليون ونصف مترشح لامتحاني شهادة البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط دورة يونيو 2024    منظمة العمل العربية: العدوان الصهيوني دمر ما بناه عمال غزة على مر السنين    رسائل قوية وجريئة من " دار الشعب"    منتدى الدوحة يدعو لبناء تكتل اقتصادي وسياسي عربي آسيوي: إشادة واسعة بجهود الجزائر لنصرة القضية الفلسطينية    رئيس مجلس الأمة صالح قوجيل: مقاربات الجزائر تجاه قضايا الاستعمار قطعية وشاملة    المصلحة الجهوية لمكافحة الجريمة المنظمة بقسنطينة: استرجاع أزيد من 543 مليار سنتيم من عائدات تبييض الأموال    الوالي أكد بأن قسنطينة تحضّر لزيارة رئاسية كبيرة: تدشين طريقين وملعبين و وضع حجر الأساس لمشاريع تربوية وصحية    خنشلة: مراكز متقدمة وأبراج مراقبة لمكافحة حرائق الغابات    محمد ذويبي من البُرج: سيكون للنهضة حضور فعال في الرئاسيات    في انتظار التألق مع سيدات الخضر في الكان: بوساحة أفضل لاعبة بالدوري السعودي الممتاز    مدربة كبريات النادي الرياضي القسنطيني فرتول للنصر    لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي    الرئيس تبون يؤكد بمناسبة عيد الشغل: الجزائر في مأمن والجانب الاجتماعي للدولة لن يزول    بخصوص شكوى الفاف    رئيس الجمهورية يحظى بلقب "النقابي الأول"    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي شهد إقبالا كبيرا للجمهور    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    تدعيم الولايات الجديدة بكل الإمكانيات    بداية موفّقة للعناصر الوطنية    العلاقات بين البلدين جيدة ونأمل في تطوير السياحة الدينية مع الجزائر    انبهار بجمال قسنطينة ورغبة في تطوير المبادلات    الجزائر في القلب ومشاركتنا لإبراز الموروث الثقافي الفلسطيني    اجتياح رفح سيكون مأساة تفوق الوصف    إطلاق أول عملية لاستزراع السمك هذا الأسبوع    المجلس الشّعبي الوطني يشارك في الاجتماع الموسّع    تكريم مستخدمي قطاع التربية المحالين على التقاعد    دعوة للتبرع بملابس سليمة وصالحة للاستعمال    263 مليون دينار لدعم القطاع بالولاية    تكوين 500 حامل مشروع بيئي في 2024    حملة وطنية للوقاية من أخطار موسم الاصطياف    أوغندا تُجري تجارب على ملعبها قبل استضافة "الخضر"    روما يخطط لبيع عوار للإفلات من عقوبات "اليويفا"    بولبينة يثني على السعي لاسترجاع تراثنا المادي المنهوب    دعم الإبداع السينمائي والتحفيز على التكوين    تتويج إسباني فلسطيني وإيطالي في الدورة الرابعة    الزّوايا.. عناصر استقرار ووحدة وصروح للتّنوير    البطولة الإفريقية موعد لقطع تأشيرات جديدة لأولمبياد باريس    الجزائريون يواصلون مقاطعة المنتجات الممولة للكيان الصهيوني    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    للقضاء على "الضبابية والأرقام الوهمية"..رئيس الجمهورية يؤكد على أهمية تعميم الرقمنة    الخطوط الجوية الجزائرية تعلن عن فتح باب الحجز عبر الإنترنت لعرض "أسرة"    افتتاح المهرجان الدولي ال6 للضحك بالجزائر العاصمة    قطاعا التجارة والمؤسسات الناشئة يعملان على رقمنة عملية إنشاء الشركات    أم البواقي: تحضيرات حثيثة لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    المنتخب الجزائري لهوكي الجليد يتوج بكأس الأمم الأحلام الدولية في أمريكا    خنشلة: الوالي محيوت يشرف على إحياء اليوم العالمي للشغل    ري: تثمين جهود الدولة و استثماراتها من خلال ضمان خدمة عمومية مستقرة و منتظمة للمياه    وزارة الدفاع: القضاء على إرهابي وتوقيف 11 عنصر دعم للجماعات الإرهابية خلال أسبوع    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعوى غياب فن التمثيل في التراث العربي
نشر في الشعب يوم 23 - 08 - 2023

لا يمكن قبول الفكرة الشائعة بأن الحضارة العربية الإسلامية لم تعرف فنون التمثيل التي نراها على النمط الغربي، وأن العرب أخطأوا بعدم ترجمة كتاب الشعر لأرسطو، وحديثه عن المسرح اليوناني، فظلوا لا يعرفون الفنون الدرامية، ويعود السبب في ذلك إلى نظرة العرب إلى الشعر الجاهلي على أنه النموذج والمثل الأعلى، فربما يكونون قد شعروا بفقرهم إلى العمارة فسعوا إلى الاستفادة من منجزات الأمم الأخرى في مجال العمارة، ولكنهم لم يشعروا قطّ فقرهم إلى الدراما، فظلوا على أغراض شعرهم التقليدية.
الحقيقة تشير إلى وُجود أشكال عديدة من التسلية والتمثيل على المستوى الشعبي، وهي منحدرة في الأصل من التراث العربي، ولها حضورها الجماهيري.
ويرجع "فاروق عبد القادر" عدم وجود التمثيل من أساسه في التراث العربي، مُرجِعا السبب إلى تحريم الإسلام للتمثيل، ويرى أنه من العبث الإيمان بأن أسلافنا العرب قد عرفوا المسرح، فلا جدوى في التنقيب في كتب التراث لتصيد عناصر مسرحية، وقد كان من نصيب ابن دانيال، حكيم العيون المصري المقيم إلى جوار بوابة الفتوح؛ أن ينقل فن المقامة خطوة نحو المسرح، فاستبدل بالراوي الفرد في المقامة، بظل الممثلين الذين يجسدون شخصيات عديدة على ستارة مضيئة، وأصبح الراوي رئيس فرقة مسرحية، والجمهور المتخيل جمهورا حقيقيا، لابد من الدخول معه في علاقة مباشرة.. وكانت الخطوة التالية هي الانتقال من التمثيل بالتصاوير إلى التمثيل البشري، غير أن حاجز التحريم كان لا يزال قائما صلبا، فضاعت فرصة أن يقوم مسرح عربي في العصور الوسطى ().
بداية لابد من مناقشة الاتهام الشائع بأن الإسلام يحرّم التمثيل، والذي ساد في أوساط المثقفين لفترة طويلة، فهذا تصور واهم، ناتج عن انتشار فتاوى غير دقيقة، حرّمت التمثيل مرتكزة على ما يرتبط به من خلاعة ومجون وعري على نحو ما نجد في بعض المسرحيات. فلا يوجد دليل شرعي بالمنع، فالأصل هو الإباحة، في ضوء أن التمثيل كان معروفا في الأمم السابقة مثل اليونان والرومان، فلم يتعرض له الإسلام بالتحريم، وأن العلماء الذين حرّموه، لم يحرّموا التمثيل لذاته، وإنما لما ارتبط به من مخالفات مثل العري والرقص الماجن والمضمون التافه. وهناك أدلة شرعية عديدة تبيح التمثيل بمفهومه، أي أن يتولى شخص أداء دور ما، من أجل توصيل رسالة أو معنى أو قيمة أو مساعدة().

أشد درجات التحيّز
أما اتهام العرب بجهلهم بالدراما، فهو يمثل أشد درجات التحيز لصالح المركزية الحضارية الغربية، التي تقيس الحضارات والشعوب الأخرى وفق حضارتها هي، فإذا لم يجدوا ما يشابه ما عندهم من فنون وثقافة، ينظرون لها بدونية، وللأسف صارت هذه الفكرة قناعة لدى كثيرين، دون فهم لخصوصية الثقافات والحضارات وأن الفنون تنشأ عن حاجة فنية وذائقية وثقافية لدى الشعوب، ففي مصر الفرعونية نجد المسرح يتخذ شكل ظاهرة احتفالية طقسية جماهيرية عامة، تشارك في أدائها جموع الناس إلى جانب الكهنة في أحضان الدين. وتتضافر فيها ثلاثة مقوّمات للمسرح هي: الرقص بنوعيه الديني والدنيوي، والغناء والموسيقا، ومشاركة الجمهور في الأداء. وفي اليونان تلاحمت في نشأة المسرح عناصر الموسيقا والرقص والغناء خلال أداء الطقس الديني، وكوّنت قوام الاحتفالات الديونيزوسية أو الباخوسية، ثم تطورت إلى (الديثرامب) Dithramp وهي كلمة يونانية أطلقت على نوع من الشعر يغنيه فريق من المنشدين (جوقة / كورس). وهذا هو الأصل في نشأة المسرحية. أما في الهند فقد نشأ المسرح من مجموعة من الرقصات التي تعبّر عن مظاهر العبادة وكان لكل مناسبة رقصة، وقد ارتبط الرقص عندهم بالدراما ارتباطاً وثيقاً، كما ارتبط إنشاد نصوص الكتب الدينية المقدسة وتلاوة الأشعار الأسطورية بالدراما أيضاً.‏ أما في اليابان فقد نشأت أنواع عديدة من المسرح منها: مسرح الكابوكي، ومسرح النو. فالكابوكي مزيج من الأغاني والرقص والتمثيل، وهو عزيز في وجدان الشعب الياباني، ويؤدي الأدوار فيه رجال قد أعدّوا للتمثيل منذ الطفولة، وتدّربوا تدريباً قاسياً. وأما مسرح النو فتؤديه جماعة من المنشدين بمصاحبة آلات " الفلوت" وقرع الطبول().
والمسرح شكل من أشكال التمثيل، الذي يحقق الفرجة للجمهور، ولا ينحصر في تقديم مسرحية حسب الشروط الأرسطية المعروفة، وإنما الأساس وجود ممثل، يقدم مضمونا أمام الناس، قد يكون مرتجلا أو نصا تمّ إعداده من قبل، بغض النظر عن شكل المسرح المعهود بطريقته الحالية، أو بأي أشكال أخرى، المهم وجود ممثل يؤدي، وجمهور يشاهد، ومحتوى يُقدّم .
فما يحدث في المسرح الغربي بصيغته الموروثة من المسرح الإغريقي، إنما هو مجموعة من الأنماط والقوالب التي تحقق حالة من الفصام مع المتفرج، وكلما اقترب الممثل من المتفرج بشكل مباشر، كان ذلك أدعى لعرض ذاته، والتواصل مع الجمهور، فالمهم هو حضور الممثل بوجهه الإنساني الحقيقي، بدون زوائد من موسيقى أو ديكور أو مؤثرات صوتية، وحتى بدون نص مسبق، والذي يمكن أن يتشكل من خلال التفاعل الحي بين الجمهور والممثل حول موضوع ما ().
فلا معنى لمن يقيس الأمم وموروثها من أشكال التمثيل والفرجة على المسرح الأوروبي بمواصفاته الدرامية والشكلية والمكانية والزمانية .
بل إن الممثل الشرقي – كما في مسارح الصين والهند واليابان يؤدي معتمدا على فلسفة روحية عميقة قوامها توحيد الروح والجسد والارتقاء بعناصر الفعل الجسدي، وأهمية عودة التلقائية والفطرة، ومن ثم هناك رفض الأنساق الثقافية المصاحبة للمسرح الأوروبي ()، والتأكيد على الإفادة من الرصيد المتوارث من التمثيل المحلي، وعدم استيراد المسرح الغربي بكل حمولاته الثقافية.
نظرة الاتهام
هذا، وقد امتلأ التراث العربي بأشكال كثيرة من التمثيل والفرجة، وأيضا الكتابة النصية الدرامية، فنظرة الاتهام بجهل العرب بالدراما وشروطها، تقرأ التراث الأدبي العربي وتحصره في فن الشعر فقط، ولا تنظر إلى مختلف السرديات والفنون القولية والمناظرات والمفاخرات وأشكال الحكي الشفاهي والمكتوب التي صاحبت الشعرية العربية، وهي تهدف في النهاية إلى نفي فكرة العقلية الدرامية عن العقلية العربية، وتلك إشكالية كبرى، لأنها تحصر العقلية الدرامية في المسرح فقط، في شكله الموروث من المسرح الإغريقي، وهو افتئات على إبداع العرب، فالدراما تتحقق في أشكال عديدة، محكية، ومكتوبة، ومؤداة، وكلها تشمل مظاهر الحوار والصراع الدرامي، والشخصيات، مع الفكر والدلالة.
ولنا في نظرية "المسرح المحكي" العربي نموذج على وجود شكل مسرحي عربي قديم، وتتناول الأشكال القصصية العربية القديمة التي شملت لونا بديعا من المسرح المكتوب / المحكي، الذي يمكن تمثيله، وقراءته في آن.
وتدور نظرية المسرح المحكي حول أن هناك قصصا سردية وصلت إلينا مدونة، وهي يمكن تمثيلها، ففيها الحوار بين الشخصيات، والصراع، وتفاصيل المشهد المكانية. وقد قام صاحب النظرية (د. محمد حسن عبد الله) بإعادة كتابة هذه القصص وفق الشكل المسرحي، بدون أدنى تدخل منه في الصياغة، لنرى أمامنا نصا مسرحيا مكتملا نثريا، واضح في شخصياته وقصته وصراعه، ينتظر رؤية إخراجية لتنفيذه ().
وهي فكرة تمثل مع أفكار أخرى رافدا لاستلهام التراث العربي السردي، بكل غزارته، في الأداء التمثيلي، والجديد الذي تطرحه هذه النظرية أننا لسنا في حاجة للكتابة، يكفينا أن نبحث في كتب السرديات العربية، وسنجد نصوصا كثيرة، يمكن أداؤها تمثيلا، فضلا عن الإشارات في ثناياها التي تساهم في تصميم الديكور.
مبدعون كثر
أيضا، فإنه من الظلم أن يقصر أصحاب نظرة الإدانة لخلو العقلية العربية من الدراما حتى الخلافة العباسية التي سقطت في (656ه)، وتتجاهل أكثر من سبعة قرون تالية لها، قامت فيها دول وممالك وظهر مبدعون كثر، وحفلت بكثير من الأداء التمثيلي البديع، وظهر ذلك جليا لدى الحكائين والقصاصين للسير الشعبية، ومجالس النوادر، ونشأ بعد ذلك مسرح الحلقة، وخيال الظل، وفن الأراجوز، وتمثيليات ابن دانيال، حلقات الذكر الصوفية واحتفالات عاشوراء، والمولد النبوي، والحكواتي وألعاب الكرّج المعتمدة على الخيل، وغير ذلك ().
وقد كانت هناك عروض الشارع التي تقدم في الطريق العام: في الساحات والأسواق وأماكن تجمع المارة المشاهدين، ومنها: القرداتية والحاوي ..، وهي أشكال من التسلية تصحبها تمثيليات طريفة ضاحكة ()، وكانت هناك فرق شعبية من الممثلين الجوالين، يسمون "المحبظِّين"، يقيمون تمثيليات مصحوبة بالموسيقى والرقص والكوميديا الارتجالية، وقد وصفها عدد من الرحّالة الأوروبيين، وذكروا مضمون مسرحياتهم، وإحداها كانت تعرض قصة رجل، أراد شراء جمل للسفر به لأداء الحج، ولكنه يتعرض لخديعة من قبل أحد التجار، ويكتشف أن الجمل المباع له سيء، فيلاحق التاجر، ويقبض عليه، ويوسعه ضربا مع أهل الحي().
ووجدت أشكال أخرى من التمثيل، كما في مسرح الحلقة في المغرب العربي، الذي يشابه تمثيل المحبظين وهو مسرح شعبي فيه حكايات وأساطير ويلتف حوله الجمهور في ساحة واسعة، يبدأ الممثلون فيه بالصلاة والسلام على الرسول محمد، ثم يدعون المتفرجين إلى توسيع الحلقة، مما يوجد تآلفا مع المتفرجين. وهناك مسرح الممثل الواحد الذي يؤدي وحده جميع الأدوار، كما وُجِدت ألعاب للحواة والمشعوذين يشركون فيها الجمهور، ويقدمون فيها رقصا شعبيا مخلوطا بالأداء التمثيلي الفكاهي، مع ألعاب بهلوانية، وهناك عروض سؤال وجواب بين ممثلين متناظرين، وهناك عروض للرقص الأفريقي المصحوب بالصاجات الحديدية().
أيضا هناك مسرح البساط، وكان يقدم في بلاط الملك والأمراء والأعيان، وتقام له احتفالات كبرى، ويكون فرصة لعرض شكاوى الشعب على الملك، وتتنوع شخصياته ما بين شخصية "البساط" الذي يمثل الشجاعة والقوة والذكاء، وشخصية "الياهو" اليهودي المعروف بالمكر والخداع، وشخصيات شعبية أخرى عديدة. ولهذا المسرح ألوان عديدة منها: الرقصات المحلية، وأناشيد الطوائف الدينية، والمواويل والأغاني وكانت تؤديها اليهوديات، والتمثيل الهزلي الانتقادي لأصحاب الوظائف العالية، ومسرح السفهاء، ومسرح الصناع وأصحاب المهن، والمسرح الخاص بالنساء، ومسرح سلطان الطلبة الذي يؤديه طلاب جامعة قيروان ().
سنلاحظ أولا: أن كل الأشكال التمثيلية التراثية والشعبية؛ نشأت من أجل التسلية والترفيه عن الناس، وكانت تؤدى في أماكن مفتوحة أو مغلقة، فقدمت في القصور وبيوت الولاة والأثرياء والأعيان، كما قدمت في الساحات في القرى والمدن ومضارب القبائل البدوية، وأيضا على المقاهي الشعبية، حينما كان يجلس الراوي / الحكواتي / المغني، يروي السير الشعبية، ويساعده في الرواية شخص أو شخصان بأداء صوتي تمثيلي أو غنائي، وأن هناك أشكالا تمثيلية عديدة، تقدم مضمونا وأحداثا وصراعا وشخصيات، يغلب عليها الكوميديا والطرافة في الأداء .
وسنلاحظ ثانيا: أن المضمون المقدم في هذه الأشكال التمثيلية مرتبط بالبيئة المعيشة، وينحاز لهموم الفقراء والبسطاء، ويعزز مفهوم الرضا والقناعة برزق الله، كما أن المحبظين والمضحكين كانوا يوصلون شكاوى العامة إلى الملك، خلال تمثيلياتهم وأغانيهم، وكلها تتعلق بمشكلات الناس وظلم الولاة والمسؤولين.
وسنلاحظ ثالثا: أن المرأة لم تكن تمثّل في هذا المسرح إلا قليلا، وهناك رجل يقوم بدور المرأة، أو أن المرأة كانت تكتفي بالرقص والغناء، وهؤلاء جميعا كانوا من طائفة الغجر أو الطوائف المنبوذة اجتماعيا، وبعضهم كانوا من اليهود، وربما كان هذا هو السبب الاجتماعي الذي جعل الناس ينظرون إلى التمثيل نظرة دونية، ويترفعون عن العمل فيه، وتلك تمثل ازدواجية ثقافية، فالناس تقبل على مشاهدة العروض والرقصات والبهلوانات والحواة، وتضحك لها، ولكنها تنظر بدونية إلى من يساير هذه الفرق ويتبعها في تجوالها، وهي نظرة توارثها الناس حتى عهد قريب من القرن العشرين . ونرى أن السبب ليس دينيا، كما يتوهم البعض، بدليل أن علماء الدين كانوا يشاهدون هذا دون تحريم منهم، أو مطالبة أولي الأمر بمنع هؤلاء الممثلين والفنانين، وإنما السبب انتماء هؤلاء إلى فئات منبوذة اجتماعيا، وكانت هذه الفرق تشمل الممثلين والراقصات والمطربين معا.
وسنلاحظ رابعا: أن المسرح الشعبي افتقد نصوصا مكتوبة، وكان الارتجال قوامه، بمعنى أن صاحب الفرقة يتخيل فكرة وأحداثا، ومن ثم يتناوب الممثلون تمثيلها ارتجاليا، ويتم تعديل النص مع تتابع العروض، فالممثل هنا فنان مؤدٍ ومبدع لنصه في آن واحد، وليس ناقلا / حافظا آليا للمكتوب، وفي هذه الحالة يكون أقطاب المسرح : الممثل والمخرج والجمهور، والأخير له دور فاعل في العرض التمثيلي الشعبي، من خلال التعليق والاستحسان أو الاستهجان والضحك في مواضع بعينها، مما يساعد على تطوير النص بشكل يومي، طمعا في المزيد مما يجذب الجمهور، وأحيانا كانوا يطلبون من الجمهور اقتراح خاتمة للمسرحية تاركين نهايتها مفتوحة، أو تعديل الخاتمة المقدمة إذا كانت غير مقنعة لهم ().
فيمكن القول، إن الأشكال المسرحية التراثية المتوارثة نبتت من جذور البيئة العربية، وقدمت ما يتناسب مع هموم الناس، وذائقتهم، وثقافتهم، وأضافت لهم ذائقة استمرت معهم إلى العصر الحديث، وتمّ البناء عليها في تلقي المسرح وتذوقه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.