تمكنت المظاهرات السلمية الحاشدة من بعث رسالة "شعبية" قوية إلى السلطة بشكل أربك المشهد السياسي وأخلط أوراق الرئاسيات رأسا على عقب، قبيل ساعات عن غلق مهلة الترشح القانونية على مستوى المجلس الدستوري. ولا يزال الترقب سيّد الموقف في ضوء التزام الحكومة صمتا مطبقا بخصوص الحراك الاحتجاجي الذي عمّ ربوع القطر الجزائري وعدم الحسم "رسميا" في مسألة ترشح رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة لعهدة جديدة وسط قراءات ترجّح إمكانية العدول عن قراره، رغم التغييرات التي أدخلها على إدارة حملته الانتخابية ووصلت إلى حد احتمال تأجيل الاستحقاقات برمتها. كيف سيتم التعامل مع المطالب الشعبية؟ وما هي الخيارات لإخماد الاحتجاجات المتصاعدة؟ وهل سيمضي الرئيس بوتفليقة في مشروع ترشحه لعهدة رئاسية خامسة؟ وماهي السيناريوهات المرتقبة للتعاطي مع تطورات الأحداث لو استمر الحراك الشعبي؟ وماهو مستقبل الانتخابات الرئاسية في ظل هذه الأوضاع؟ هذه الأسئلة تبحث عن إجابات واضحة وسريعة وهي دون شك محل نقاشات مستفيضة ليس فقط على الصعيد السياسي والإعلامي، بل وحتى في غرف النظام ليس بسبب أهميتها فقط، بل لأن مستقبل الجزائر والأمة بأكملها رهين التطورات المتسارعة وسيناريوهات "المخرج الآمن" من دوامة هذا الغموض. وبعد 24 ساعة عن المظاهرات، التزمت الحكومة بكل أجهزتها الرسمية الصمت حول مسيرات الجزائريين المعارضين للعهدة الخامسة للرئيس المنتهية ولايته. فالوزير الأول أحمد أويحيى، الذي تحدث يوم الخميس المنقضي أمام نواب البرلمان يواصل انتهاج "سياسة السكوت"، رغم أهمية الأحداث التي كادت أن تخرج عن "سياقها السلمي" في ربع الساعة الأخير من عمر المسيرات والاستثناء الحقيقي من كل هذا هو الظهور العلني لوزير الداخلية نور الدين البدوي، الذي حيا المواطنين على سلمية المسيرات، مؤكدا أنهم عبروا عن آرائهم "بكل حرية في جزائر القيم والحرية والديمقراطية". ورغم تجنب وزير الداخلية المعني الأول بالتعامل مع ملف الانتخابات الرئاسية الخوض في مستقبل هذه الاستحقاقات، إلا أن مؤشرا قويا يؤكد سريانها في الموعد مع شروع وكالة الأنباء الرسمية في توزيع برقيات استلام المجلس الدستوري لملفات المترشحين. وفي الكفة المقابلة، لا تزال قوى المعارضة مشتتة، لكنها أجمعت على دعوتها إلى "الإنصات لصوت الشعب والتعاطي الإيجابي مع مطالبه، من أجل الجزائر التي تبقى مصالحها العليا المتفق عليها مقدَّمة على المصالح الحزبية والسياسية"، وحذَرت من "سياسة الهروب إلى الأمام وردود الفعل السلبية أوالضيقة". على الصعيد الشعبي، يرى مراقبون أنه من الأفضل أن يقرأ النظام إشارات الشعب المرسلة بالشارع قراءة صحيحة هذه المرة، حتى لا تتحول الأمور إلى وجهة أخرى، يصبح معها أمر إصلاح الأوضاع مسألة صعبة! ويلتزم قادة أحزاب التحالف الرئاسي، الصمت، بخصوص المظاهرات التي جرت أمس الجمعة في كل ربوع القطر الجزائري، رفضا للعهدة الخامسة. وإلى حد الساعة، لم يظهر معاذ بوشارب منسق هيئة تسيير الافلان ولا قيادات حزبه، وكذلك الأمر مع الأمين العام للأرندي أحمد أويحيى، وعمارة بن يونس الامين العام للامبيا وزعيم تاج عمار غول، يضاف إلى أحزاب التحالف الرئاسي والحكومة، الغياب التام لعبد المالك سلال، مدير الحملة الانتخابية السابق لبوتفليقة الذي لم يدل بأي بتصريح أو رد على المظاهرات، في ظل تسريبات صوتية له لم يتسنى التأكد من صحتها ولعل ذلك وراء قرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إجراء تغيير فوري لمدير حملته الانتخابية، عبد المالك سلال، بالسيد عبد الغني زعلان، حسب ما أعلنته مديرية حملته وهذا في حد ذاته ربما مؤشر قوي على "عدم عدول الرئيس" عن قرار ترشحه رغم تعدد القراءات التي رجحت هذا السيناريو. وفي ظل هذا الارتباك الذي زاد المشهد "غموضا" تترقب الطبقة السياسية موقف المؤسسة العسكرية من الأوضاع والسيناريوهات المحتملة في ظل الحديث عن إمكانية تأجيل الرئاسيات أو ترشيح بديل عن بوتفليقة، خصوصًا بعدما جرى تداول اسم وزير الخارجية الأسبق، رمطان لعمامرة لخلافته. وفي خضم الأحداث المتسارعة، تبرز أهمية المظاهرات الشعبية السلمية التي شهدتها المدن والجامعات والمحاكم، التي نجحت في تحريك المشهد السياسي والإعلامي وخلق ديناميكية في الجمود القائم الذي عجزت عنه النخبة والأحزاب السياسية وحتى وسائل الاعلام. الحراك أصبح اليوم محور كل الأحداث وطنيًا ودوليًا في الجزائر، مما دفع بفئات أخرى إلى الالتحاق كوقفة الطلبة والمحامين وانخراط المثقفين ونداء الاساتذة الجامعيين واستقالات لبعض الصحفيين وتحرك الإعلام العمومي لرفض الواقع المفروض عليه. ومن جهة المتظاهرين، فإن الرسائل المرسلة وصلت بالصورة والصوت، حيث كانت تلتقي في رفض العهدة الخامسة والتمديد والتوريث، والكرة الآن في مرمى النظام للقيام بقراءة صحيحة لكل ما جرى، خصوصا وأنه يملك معطيات ميدانية حقيقية لا يملكها غيره بشأن هذه المسيرات والمدى الذي قد تصله مستقبلا، ولدى أجهزته سبر آراء وطني عن موقف الجزائريين سواء الذين خرجوا إلى الشارع أو الذين امتنعوا خوفا من العنف الأكيد، أن الساعات القليلة القادمة ستكون حاسمة وتحدد مستقبل الجزائر في ضوء موعد رئاسي سيحدد مصير البلاد والشعب الراغب في إحداث تغيير وإصلاح عميق في شؤون الدولة والتأسيس لعهد جديد يُحترم فيه الدستور وقوانين الجمهورية لإرساء دولة الحق والحريات.