كان الصباح خريفي في قسنطينة ..الشمس تتربع في كبد السماء على خجل معلن ..تسللت خيوطها هادئة وناعمة من شرفة البيت المطلة على حركة المدينة .. افترشت سجادة صلاتها على أرض الشرفة ومدت ركبتيها ،ونادت علي بالمجيء إليها ..طلبت مني أن أنام على ركبتيها كما كنت أفعل دوما طفلا صغيرا ورجلا كبيرا ..سرحت أصابعها طويلا ،وفي نعومة خرافية في بقية شعرات رأسي التي طار أغلبها في أسفار العمر .. استراح عقلي وقلبي لسكينة أصابعها في اللحظة إياها تمنيت لو امتد الزمن وكان تلك اللحظة المستقطعة من غير ضجيج الأرض وأسئلة أهلها .. لم تتوقف عن ذكر الله والدعاء لي بالعافية الأبدية ،والسلامة من كل سوء لي، ولكل الذين هم حولي ..ناعمة الأصابع ..أصابع متدفقة ومعطاءة في حركتها وحتى في سكونها . عاجلني موعد الطائرة كما كان وسيظل يفعل معي في كل العمر .. ترددت قليلا في التأجيل ..حملت هاتفي قلت لصديقي عمر أجل الرحلة إلى طائرة المساء ..سارعني بالسؤال أن كان هناك طارئ عائلي ..كان يدرك أني انصرفت في هذا الصباح عن كل المدينة إلى أمي .. أطاوع نفسي أمام عظيم اللحظة لكن أمي كانت في اللحظة أجمل من كل اللحظات وفي كل العمر ..تحدث الصمت بيننا طويلا ونامت الشمس عميقا على ركبتييها كما فعل قلبي وأكثر .. استكنت أنا واستكانت المدينة حولنا واستغرقتنا اللحظة عميقا ..كلانا لم يعد يدرك كنه المكان في غير استغرقنا المشترك في حالة توحد خرافية الطعم والمعنى .. وحدنا فقط نعرف معنى هذا الصمت وفيه فقط يحدث أجمل الكلام ..علمتني أمي أن أجمل الكلام هو الذي لانقوله في ساعة السكينة وأعظم الكلام هو الذي لا نبوحه في ساعات الوجع ..لم يكن لامي كلاما أجمل من صمتها ..فيها يتحدث الصمت أجمل من كل الكلمات موعد الطائرة تأجل ..طائرات كثيرة أخدتني في كل الاتجاهات لكن أصابع أمي كما تفعل الآن في راسي وحدها تأخدني في اتجاه مقامات الروح العميقة لا احد يعرف كيف يطعم قلبي السكينة مثل وجهك يا أمي .لا احد يا أمي يعطي لأسئلة القلق في قلبي إجابات الشفاء منها .لا احد يعطيني ع نوانا لانتماء كما تفعل سكينتك الخرافية هذه يا أمي انظر وجهك بكل الحب أجده لا يتأخر في إرسال إشارات الحب الدافئة والصامتة ...الحب في عينيك يا أمي صلاة وابتهال إلى السماء .. أتوسد ركبتيك الناعمتين سرق منهما العمر كل السحر الذي رافقهما في كل الدهر لكنهما يعرفان كيف يشكلان المرتع الأجمل لقلبي و الاستكانة لا أوجاعي المعلنة والدفينة .. هنا أحب أن اركض واستكين وأعيد تشكيل خرائط العالم ..ليس ثمة أجمع لشتاتي من هذا الحضن ياأمي .. أتوزع إنسانا في لمسة من يديك و أقيم سكينة في نظرة من عينيك و احدث عزفا منفردا في ملا مسات أصابعك لوجهي حكت لي ذاكرتنا المشتركة البعيدة ..حكت عن والدي وقصص الرجولة بيننا ..حكت لي عن القرية الجميلة عن أطفالي الجميلين وانهم دنياي ..ذكرتني أنها ستكون معي دوما وأنها سترعاني بكل الدعاء الممكن في العالم ..امتد البوح بيننا ساعة وساعتين وتجاهلت موعد الطائرة أكثر مما أردت له .