نادرة جدا هي الكتب النقدية والأدبية والسير ذاتية التي تتناول بشجاعة مواقف المثقفين والكتّاب والفنانين من السياقات التاريخية المعقدة، أو المبهمة، بعيدا عن النصوص والروايات والقصائد والأوهام والمسائل الأكاديمية البحتة وعوالم المثل التي لا تتجسد إلا على الورق، مع ما يمكن أن تثيره هذه الكتابات من ردود أفعال متفاوتة، أو مدمرة لبعض الادعاءات التي تحيط بفئة من الأدباء وعوالمهم الواهمة. لقد أغفلنا قضايانا وسلّمنا أرواحنا للشيطان، دون أن نحاسب أنفسنا، ذاك ما نستنتجه ببعض المرارة. يبدو لي، مع بعض التحفظ الضروري لأيّ عرض أكاديمي، أنّ كتاب *زناة التاريخ* للروائي الجزائري رشيد بوجدرة، من هذا النوع *المشاغب* الذي يحتاج إلى قراءة جادة تحيط به، وإلى نقاش حيادي، ومؤسس، بمنأى عن أية نزعة انتقامية قد تلحق ضررا بالكتابة والفن معا. مع الملاحظة أن هذا الهجاء اللاذع يتقاطع، من حيث الأسلوب والطرح، مع كتابه *كراهية الفيس*، أو حقد الفيس، وهو الكتاب الذي أصدره في العشرية السوداء في نقد بعض توجهات التيار الإسلاموي، بنوع من الهجاء أيضا. يقع هذا العمل الجديد في 126 صفحة من الحجم المتوسط، منشورات فرانتز فانون، تيزي وزو، الجزائر، السداسي الثاني 2018، وقد ظهرت على الغلاف، بشكل بارز ومستقل، كلمة *هجاء* كعتبة تحيل على المنحى العام للمؤلّف، أو ذاك ما نتوقعه كقراء بناء على هذه الكلمة المفارقة لما ألفناه. سنكتشف، مع كلّ صفحة، أننا فعلا أمام هجاء حقيقي، ومباشر، كما يتكشف من المؤلف برمته. لذا، من المهمّ أن نأخذه في مقامه الفعلي، أي في أسباب تأليفه. ما يبرّر، من منظورنا، الطابع الحماسي للكتابة، لتتابع النعوت السلبية التي يلصقها بالمعنيين، وللجمل التي تبدو متشظية، قلقة، ومكررة أحيانا، بصرف النظر عن أيّ تقييم أو تقويم للكتاب الذي بدا مضطربا قليلا، ومليئا بالاستطرادات والأخطاء، ومنها ما تعلق بالأخطاء المطبعية، إضافة إلى بعض التفاوت ما بين النسختين، الفرنسية والعربية: هناك تعامل مع المعاني، وليس مع الأشكال والمعجم والأساليب القاعدية. بخصوص العنوان: أثيرت أسئلة مشروعة حول العنوان بالعربية لأنه بدا منزاحا وصادما إلى حدّ ما: زناة التاريخ. لقد جاء مختلفا عن العنوان بالفرنسية، والذي يمكن أن نترجمه، للأمانة اللسانية، كما يلي: مهرّبو التاريخ، هكذا يكون مطابقا للمعنى الأصلي في اللغة الأجنبية التي كتب بها هذا الهجاء، دون أن نكون بحاجة إلى قراءات ليست ضرورية، أو فائضة عن الحاجة، أو مشككة في فعل الانتقاء. والواقع أنّ كلمة زناة، أو ما يعادلها من مصادر وأفعال، وردت في النص 18 مرة، بنوع من الإلحاح، ومن ثمّ إمكانية البناء عليها كلفظ مفتاحي ينتقل من المتن إلى العنوان بقوة، مع الإبقاء على الأسئلة قائمة لأنها منطقية، وضرورية. لقد بنيت رواية *ليليات امرأة أرق*، للكاتب نفسه، على جملة واحدة تواترت بمستويات بنائية ومعجمية متباينة، لكنها تدور حول نواة دلالية وحيدة، شبيهة بنواة هذا الكتاب من حيث القيمة الوظيفية. نشير ها هنا، من أجل التوضيح، إلى الأمانة النسبية في فعل الترجمة، أي إلى الخيارات الممكنة للمترجم أثناء النقل من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، ثم إلى الحالة الثقافية التي يتعامل معها، (أشدد على الحالة الثقافية)، بعيدا عن الحرفية التي يرغب فيها المتلقي الذي يبحث عن التكافؤ الكلي، أو عن التطابق التام ما بين الأصل والفرع. لقد ترجم المرحوم مارسيل بوا رواية غدا يوم جديد لعبد الحميد بن هدوقة بشكل مختلف عن الأصل، وإذ سألته آنذاك عن السبب، مباشرة بعد صدور الرواية بالفرنسية، أجابني بتواضعه الكبير: أسست في التعامل مع العنوان على دلالات النص وأبعاده، وليس على تجليات اللفظ. لذلك أصبح العنوان بالفرنسية يساوي: التعرية. وهذا خيار من الخيارات الممكنة، دون أن نغلق باب التأويل والاجتهاد. عودة إلى المتن: يطرح المؤلف، ببعض الجرأة المسؤولة، مضمرات كثيرة سكت عنها المثقف والإعلامي والكاتب خلال سنين، أو كان طرفا فيها لغايات عينية، غير بريئة في أغلب الأحيان، من منظور صاحب الكتاب. ومن ذلك على سبيل التمثيل: الكتابة للآخرين، التفكير بعقولهم والرؤية بأعينهم لإرضائهم، أو بحثا عن مكانة، أو عن منصب، أو عن جائزة، أو عن أموال وشهرة، أو التهافت على الذوبان في المنظور الغيري، وذلك بتزييف التاريخ والوقوف ضد البلد ومقوّماته (يركز الكاتب على الدين واللغة العربية والتاريخ). وهو بذلك يزيل القناع عن مرحلة من مراحل ما بعد الاستعمار التي شهدت تنازلات روائيين ومخرجين ومؤرخين ومثقفين مكرسين ممن أصبحوا امتدادا للمستعمر، ومرايا له، أو ناطقين رسميين باسمه، دون أيّ نقد يذكر، لا من المثقفين ولا من الإعلاميين والأكاديميين المنسحبين من المشهد العام، أو المنسجمين معه. يقول: * فهمت بسرعة أنّ الوطنية الجزائرية كانت تضرب من أطراف مختلفة ونافذة وقوية تتواجد داخل المجتمع الجزائري نفسه، وبدون أن تحارب من طرف المثقفين مثلا ( وأنا أيضا مسؤول عن هذه *الفلسفة الرجعية* لأنني لم أهتم بها منذ ظهورها أثناء السنوات الأولى من الاستقلال* (ص. 14). يسمي رشيد بوجدرة هذه الفئة من المثقفين المهزوزين والمؤرخين المزيفين والكتّاب الجزائريين، الذين عملوا على إرضاء فرنسا وإسرائيل والفكر الاستعماري بشكل عام: *حركى* الكلمة الكاذبة الذين عاثوا في الجزائر فسادا*. وللتدليل على ذلك يقدم نماذج من الروايات والأفلام السينمائية والمواقف والتصريحات والأفعال المنتقاة بعناية، وهي تشبه، إلى حدّ كبير، مواقف المستعمرين من الأهالي، إن لم تكن أكثر حدة وغرابة وتطرفا من نظرة الغزاة أنفسهم، بمن فيهم بعض الشعراء والمفكرين والروائيين الأجانب، وعلى رأسهم كلّ من فيكتور هوغو وألبير كامو الذي قال، تتمة لمواقفه السابقة من البلد: *إن استقلال الجزائر هو مجرد صيغة متعصبة، ومجرد بيان لتأسيس الامبريالية العربية الجديدة*. (ص. 78). لا يتوقف الكاتب عند هذا الحد في فضح الاستلاب والخداع والكذب والأوهام التي أصبحت من المقوّمات القاعدية للشهرة والانتشار وتكريس الوهم، بل يتهم عدة أطراف لها منحى أيديولوجي مضلل بالتواطؤ مع الشرّ الأعظم، وهو يقدم أمثلة من تجربته الشخصية، وبتحديدات دقيقة جدا: *إن الفرونكوفونية هي نوع من الامبريالية لأنها تستعمل لجلب الآخر و*تنويمه*، خاصة وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة أن بعض الصحف الناطقة بالفرنسية لها خطاب إيديولوجي غريب... وقد كانت في الماضي القريب صحافة وطنية غيورة على كرامة البلاد...* ص. (98). ثمة إذن، بالعودة إلى الكتاب، انزلاق عام على عدة أصعدة إستراتيجية، وكثير من المغالاة الساذجة من الروائيين في جلد الذات والإعلاء من شأن الآخر، سواء بتبييض مساوئه وتاريخه الدموي في أعمال ادبية لقيت رواجا كبيرا في الغرب، أو بالانمحاء فيه عن طريق المحاكاة الكلية طمعا في منّته. ذاك ما يكرره المؤلف في عدة مقاطع تصبّ في الدلالة ذاتها: التبعية للغير بحثا عن مكافأة ما، وذلك بالتنكر للذات، أو بالتهجم على الوطن ومساراته التاريخية وقيمه، ومن ذلك: اعتبار أحد الكتّاب بأنّ المجاهدين أثناء الثورة مجرد إرهابيين وبدائيين ألحقوا ضررا بفرنسا و بالقيم الإنسانية السامية، شأنهم شأن الثوار الفلسطينيين، كما ورد في بعض التصريحات المريبة التي ثبتها الإعلام. كتاب* زناة التاريخ * ، على أهميته، مليء بسواد مديد لا بداية له ولا نهاية، إدانة صريحة لمنجز روائي تابع للمستعمر. إنه مظلم وقلق إلى حدّ كبير، حاد، ومنطقي من حيث إنه يعكس حقائق تاريخية كثيرة تمس بالدولة الوطنية. ومع ذلك فإن فيه قبسا من نور يضيء هذه العتمة الكبيرة التي تجلله. هناك استثناءات كثيرة يذكرها الكاتب ببعض التشديد والمعاودة. لكن الأسئلة التي يطرحها مهمة، وضرورية جدا للسياق الذي يغمض عينيه منتشيا، أو غير مبال بتكريس الأخطاء التي ستغدو مرجعيات تمثيلية لا يمكن ضحدها بسهولة بعد أن تترسخ في أذهان الآخرين وتصبح حقيقة ماثلة للعيان: هناك تشويه معلن لصورة الجزائري بتقديمه في هيئة وحش، وبدائي. قفلة مؤقتة: بالرجوع إلى السياق العام للكتاب، فإن العنوان بالعربية له ما يسوّغه دلاليا، وهو يبدو، مقارنة بعنوان النسخة الفرنسية، أكثر تعبيرا عن المتن، وعن مختلف الموضوعات والمواقف التي طرحها رشيد بوجدرة بجرأة، وببعض التفاصيل، رغم أنه لم يقل كلّ شيء عمّا كان يفكر فيه بصوت مرتفع. ربما كان محتاطا لغاية في نفسه. هناك كثير من إنّ، وشيء من حتى... مع ذلك فإنّ هذا الكتاب نافع جدا عندما يقرأ بروية، وهو يستحق عدة قراءات متأنية، ومحايدة لتفادي أيّ عمى آخر، أشدّ تدميرا من عمى الكتابة الخاضعة للعرض والطلب، ولإملاء الآخر ورغباته السياسية التي لا علاقة لها بالإبداع الحقيقي الذي لا يباع ولا يشترى في أسواق الرثاث والنخاسة.