سياسة الرئيس تبون الاقتصادية والإصلاحية فرضت الاعتراف الدولي    العاصمة.. برنامج لإنجاز منشآت رياضية وتربوية    تحسبا للدورة 18 لبرلمان البحر الأبيض المتوسط بالبرتغال: قوجيل يوصي بمواصلة الدفاع عن مواقف الجزائر    رئيس المجلس الشعبي الوطني إبراهيم بوغالي يؤكد: التسيير بالأهداف أحد الرهانات الكبرى لإصلاح النظام الميزانياتي    5.7 مليون مشترك في الإنترنت الثابت في الجزائر: ارتفاع في عدد المشتركين و تطوّر في سرعة التدفق    ارتكب المزيد من المجازر المروعة في اليوم 220 من العدوان    يشارك في الاجتماع الوزاري التحضيري للقمة العربية: عطاف يحل بالمنامة بتكليف من رئيس الجمهورية    موجهة لقتل المدنيين في الصحراء الغربية و فلسطين: شركات صهيونية لإنتاج طائرات «درون» في المغرب    خلال مؤتمر دبلوماسي بجنيف: الجزائر تلفت الانتباه إلى ما يواجهه شعب فلسطين من تدمير لتراثه    مجلس قضاء العاصمة يفتح تحقيقا في القضية: توقيف 7 أشخاص إثر وفاة 5 أطفال غرقا بمنتزه الصابلات    رئيس النقابة الوطنية للصيادلة الخواص الدكتور مرغمي كريم للنصر: وضعنا برنامجا للتصدي لحملات تشويه المنتوج الوطني من الأدوية    الفاف حضرت لهذه السفرية مسبقا: ترسيم لقاء الخضر و أوغندا بكامبالا    قبل 4 جولات من نهاية بطولة الوطني الثاني: شبح السقوط يهدد 9 فرق والقاعدة الشرقية تحت ضغط عال    طواف الجزائر الدولي للدراجات - 2024    نتوقع 10 ملايين مسافر نهاية 2024    باعتبارها القضية المركزية للعالم العربي والإسلامي،بلمهدي: الجزائر تؤكد تمسكها بموقفها الداعم للقضية الفلسطينية    بمناسبة إشرافها على افتتاح أشغال ملتقى حول الأسرة،كوثر كريكو: نثمن التنسيق ببن قطاعي التضامن والعدل حفاظا على الاستقرار الأسري    الجزائر : الفرقة المتنقلة للشرطة القضائية بىسطاوالي الإطاحة بشبكة إجرامية تتاجر في المخدرات    انطلاق ملتقى دولي حول جودة الحياة والسلم الاجتماعي بتيسمسيلت    خطة لإنعاش مؤسسة "أنيام" غلاف مالي بقيمة 3.5 مليار دج    صناعة : السيد عون يدعو إلى استكشاف الأسواق الأجنبية    بن ناصر يتألق    أرسنال أمام لحظة نادرة جدا.. والسيتي جاهز لتخطي العقبة    "الفاف" تكشف عن مكان وموعد اللقاء    غويري يتحدث عن تجربته مع رين ومنصبه المفضل    45 ألف فلسطيني ما بين شهيد ومفقود    مطالب المقاومة في المفاوضات محل إجماع وطني وشعبي    الاحتلال يصعّد عدوانه في الضّفة الغربية    عنابة: الفريق الطبي ينجح في إجراء 6 عمليات جراحية معقدة    ارتياح لظروف الامتحانات التجريبية    وهران تحتفي ب"الراي"    لفن التصوير ضوابط على مُمارسها إتقانها    هكذا تجلّت الهوية الفلسطينية في الأدب الجزائري..    انطلاق أسبوع التوجيه المدرسي    قصف صهيوني مكثف من جباليا إلى رفح    سيارة تدهس الملاكم الأسطورة موسى مصطفى    70 مخالفة تعدٍّ على المحيط    تراجع أسعار الذهب وسط ترقب لبيانات أمريكية    الموافقة على تعيين سفيري الجزائر بفيتنام وأوغندا    اتفاقية تعاون بين الجزائر العاصمة ومرسيليا    الجزائر تشارك في اجتماع اللجنة الإفريقية للتجارة والسياحة والصناعة    اقتراح مشاريع بعنوان قانون المالية 2025    وفد كيني يزور منشآت مجمّع "سوناطراك"    رغم الوفرة أسعار الخضر ملتهبة    بتكليف من رئيس الجمهورية.. عطاف يشارك بالمنامة في الاجتماع الوزاري التحضيري للقمة العربية    للمشاركة في معسكر جوان المقبل.. بيتكوفيتش يضع أربعة لاعبين جُدد ضمن قائمة "الخضر" الموسعة    ضرورة الإسراع في إتمام دراسة إنجاز مخطط تثمين الموقعين الأثريين "كولومناطا 1 و 2 " بسيدي الحسني    مجلس قضاء الجزائر : توقيف 7 أشخاص في حادثة غرق أطفال بمنتزه الصابلات    سيدوم إلى غاية 15 ماي الجاري.. عرض أولى الأفلام القصيرة المتنافسة على جوائز مهرجان ايمدغاسن    معرض فني لاستذكار مساره الإبداعي : "لزهر حكار .. حياة" مهرجان من الألوان المتلاحمة تحكي نصا حياتيا    وضع تصوّر لسوق إفريقية في صناعة الأدوية    هذا موعد تنقل أول فوج من البعثة إلى البقاع المقدسة    ضرورة خلق سوق إفريقية لصناعة الأدوية    آثار الشفاعة في الآخرة    نظرة شمولية لمعنى الرزق    الدعاء.. الحبل الممدود بين السماء والأرض    اللّي يَحسبْ وحْدُو!!    التوحيد: معناه، وفَضْله، وأقْسامُه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوصف البدين
مرايا عاكسة
نشر في الجمهورية يوم 12 - 10 - 2020

الظاهر أن كثيرا من الحالات الوصفية والتشبيهات المنتشرة في كتاباتنا مجرد تكديس لتقنيات موروثة لا دور لها، إن نحن دققنا في طبيعتها الفعلية، وفي علاقاتها بالأحداث والأفعال والحالات والجانب النفساني. يتفق المتخصصون في علم السرد على أنّ المشاهد والوقفات تقوم بفرملة السرعة السردية من أجل إضاءة بعض المكونات النصية، كالفضاءات والشخصيات، ومن ثم صعب الاستغناء عنها من حيث إنها أنوية، ذلك أنها تسهم في دفع السرد إلى الاستراحةلترقية الدلالات عن طريق التصوير الدال.
كما يمكن لها، إن استثمرت بوعي عارف، أن تبرّر الفكرة والموقف والإحساس والفعل والحدث. ما يعني أن الوصف، بنوعيه، أي المشهد والوقفة، كما التشبيه، لا يرد بطريقة اعتباطية،ولا يأتي كترف ذهني، أو كعنصر دخيل لا يخدم الحكاية بقدر ما يبدهها، إن لم تصبح الأوصاف النموذجية، أو النقلية، منفّرة بسبب المغالاة في التبئير علىجزئيات باهتة. ما عدا إن كان الكاتب لا يعي ما وجب الاهتمام به من تقنيات، وما يمكن التخلي عنه للضرورة السردية، أو للاقتصاد الذي يفيد القفز على المغالاة في الوصف كتكرار في مقامات، وكحشو مؤثر.
العينات التمثيلية عن الافراط في تسمين الوصف كثيرة في السرديات العربية، بداية من كتاب زينب لمحمد حسين هيكل، مرورا بحديث الكروان لطه حسين وسارة لعباس محمود العقاد، إلى كتاباتنا الحالية. وإذا كنا نجد أعذارا للجهود المؤسسة بالنظر إلى أنّ الكتابة الروائية والقصصية كانت في بداياتها الأولى، ومن ثمّ فرضية الوقوع في مطبات يصعب إدراكها تقنيا، فإننا لا نجد ما يسوّغ انتشار الوصف بشكل لافت في بعض الأعمال الجديدة التي كان يفترض أن تكون، بالعودة إلى ثقافتها السردية، أكثر وعيا بمختلف التفاصيل الضرورية للنص، الشيء الذي لا ينسحب على التجارب الأولى التي لم تجد سندا تتكئ عليه في إدراك التقنيات ودورها في تقوية المرويات، أو في تفادي التضخمات النصية بالتركيز على الرثاث.
هناك عدة أسئلة يمكن طرحها على الكتّاب المعاصرين، المكرسين منهم والمبتدئين: ما الفائدة من الاستغراق فيالوصف البديهي لأوراق شجرة ذابلة في فصل الخريف، أو في وصف طاولة وصفا دقيقا يحتل عدة صفحات، أو كرسي ملكي من القرن السادس عشر، بإيقاف السرد والأحداث كليا، أو جزئيا، دون أن نجد لذلك مقاصد في المتن، ما عدا الرغبة في إدراج مقطوعات تهتم بتفاصيل لا تقدم إضافة للمتلقي؟ وما معنى وصف أماكن جميلة لا تعني الشخصيات التي تتحرك في هذه الفضاءات؟ ودون أن تبنى على علاقات سببية تبرز قيمتها في تحويل الأحداث والنفسيات؟ أو في التأثير عليها، أو في ملئ بياض ذي قيمة دلالية أو وظيفية ما؟
إننا نقوم أحيانا بمحاكاة دور المصورين والرسامين والنحاتين والطبيعيين، أو دور الكاميرا في الفيلم السينمائي، مع أننا ندرك عجزنا عن تقليد ما تعذر تقليده، كما أنه ليس من مهامنا محاولة نقل المحيط الخارجي بواقعية بدائية،بتعبير جان ريكاردو. ما الجدوى من تقديم شخصية حزينة تتجول في حديقة شاسعةبها أشجار من التفاح والليمون والبرتقال والإجاص والزيتون والوردوالياسمين والظلال الوارفة، وبها ماء زلال وفاكهة تأسر العين، إن لم يبرر ذلك مزاج الشخصية وحركاتها وأفعالها ومعجمها وخطابها وصيرورتها وجوانبها النفسية ؟ هل يمكن اعتبار ذلك مجرد محاكاة إملائية للكلاسيكيين الأوروبيين الكبار من أمثال ليون تولستوي وهونوري دو بالزاك، أم إن المسألة تتعلق بسوء تقدير؟
يجب التأكيد على المعجم ومنحى الخطاب لأن هناك فرقا بين السجن والمقهى والحديقة وقاعة الدرس، ذلك أن كلّ حيز ينتج قاموسه. المقامات الضاغطة لها دور في ذلك، ما عدا إن نحن لجأنا إلى المفارقات المقصودة للتدليل على الاستثناء، كأن نجعل شخصية ما تغني في فضاء مغلق، أو تنتج ملفوظات منزاحة عن المعيار، لكنها مدروسة سلفا، كما فعل نيكوسكازانتزاكيس في رواية « زوربا» ، ثمّ ما معنى أن نستغرق في وصف شخصية عملاقة وبدينة ترتدي قميصا أصفر أو أزرق أو أسود أو برتقاليا، ثم لا نجد في المتن وظيفة معينةلطولها ولون ملابسها، أو ما يجعلها مختلفة عن الشخصيات الأخرى الأقل طولا ووزنا، كموقف وفعل وقول وحركة؟
لا بدّ أن المتلقي سينتظر خصوصية وظيفية ما لانتشار الوصف، مفاضلة ذات قيمة تحويلية أو تأثيرية، شيئا مفارقا يبرر الاختلاف الذي ركز عليه الكاتب في الأوصاف التفاضلية التي تأخذ حيزا من النص. لكنه قد لا يجده، إن لم يعثر على تعارض ما بين انفتاح المكان واحتفالية اللون وبؤس الشخصية، أو انغلاق المكان وانفتاح الخطاب، دون أن ينتبه الكاتب إلى الخلل الحاصل في العرض، كما يحدث أحيانا في المسرح عندما تكون السينوغرافيا احتفالية والحكاية تراجيدية، والأمثلة كثيرة عن هذا التعارض اللافت في أدبنا ومسرحنا.
للوصف قيمة توحّد الموصوفات والخطابات في نوع من التناغم بين الأوصاف والمواد الدالة عليها، أو في اتحاد عارف بطبيعة العلاقات السببية بين هذا وذاك. لقد تحدث الناقد والمخرج فرنسوا تريفو في كتابه «أفلام حياتي» عن أمر لافت يخص هذا الموضوع، ويتعلقبجزء من لباس ممثلة في عرض مسرحي. لاحظ خللا كان يجب تفاديه في ضبط اللباس. بدا الأمر غريبا بالنسبة للمعنيين، وكانوا مستائين منه، غير أنه كان مقنعا، ذلك أن التفصيل كان يحتاج إلى تغيير لتستوي هيئة الشخصية.لقد أظهر هذا الجزء من اللباس خللا لم ينتبه إليه المحترفون، رغم أن مراجعته كانت ضرورية.لقد حدث لي ما يشبه ذلك عندما سألت أحد المخرجين بعد مشاهدة مسرحية جميلة: ما وظيفة القبعة الحمراء التي يرتديها الممثل المحوري؟ فأجابني: هكذا، لم أفكر فيها أصلا.
ربما تساءل المتلقي المنبه عن سبب انتشار الألوان في العمل السردي، وهو موضوع قراءتنا هذه: ألوان الملابس والأثاث والبساتين والأحياء والمقاهي والأشجار والزهور والحيطان، وما إلى ذلك من جزئيات ضالة ، قد يصف الكاتب الكراسي ولونها الأصفر الذهبي، شكل الطاولة ومساحتهاولونها وما فوقها من صحون وكؤوس وملاعق وسكاكين وأطعمة ومشروبات، ويحدث أن يهتم بوصف المزهرية، لون البنفسج وهيئته ورائحته، رغم أنه يدرك أنه لن يقدم معلومة جديدة للقارئ، ولن يعلمه، على اعتبار أن هذا الأخير يدرك ذلك سلفا.ثمّ إننا لا نجد لاحقا وظيفة سياقية للون والشكل والعدد والمساحة والدقة، ما عدا الإفراط في تكديس عدد الصفحات من أجل تمطيط العمل الأدبي.
وقد تلجأ بعض الإبداعات إلى مجموعة من الأوصاف والتشبيهات غير الضرورية للحكاية فتقلل من شأن الاستعارة والوقفة والمشهد، أي من قيمة الوصف الذي يفقد خصوصيته كضرورة نصية، وكخيار يضيء مضمرات معلقة. أما أسوأها فهو الوصف المكرر الذي غالبا ما يأتي عندما لا يراجع الكاتب ما كتبه، أو لا ينتبه إلى أنه صوّر أجزاء من المادة السردية مرتين أو أزيد، بمعاودة تامة، أو متقاربة، أو بتنويعات على الأصل ذاته، بتعبير أدونيس، ودون إضافة تمليها الحتمية من أجل ملء فجوة ما، أو بياضا سابقا قصده المؤلف لغايات، ثم عاد لإضاءته.
عادة ما نجد هذا النوع من التضخم في الكتابات التي تستخف بذكاء القارئ، وفي النصوص التي تتخذ الحجم غاية من الغايات القاعدية، مع ما يمكن أن يحدثه هذا الخيار من تأثيرات على الجوانب التقنية، على إنتاج الدلالات المكررة، بتعبير هيجل، وعلى الأثر الفني بشكل عام. العمل الأدبي مختلف عن العمل السينمائي. إنهليس كيسا كبيرا يملأبالرثاث والنفايات التقنية التي تضر بالكاتب، وبالمتلقي الذي لا يعنيه الوصف الزائد عن الحد. هل كان الكاتب أندري جيد محقا عندما دعا إلى ضرورة تنازل الرواية عن الوصف التفصيلي لفائدة السينما؟ ، ربما كان من المهم الاكتفاء بما كان ضروريا، ثمّ ترك التفصيل للآخرين من أجل تفعيل مداركهم، دون حصر خيالهم في ما يحدده الكاتب من أوصاف قد تكون فائضة عن الحاجة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.