كانت الأم الشابة تبتسم بشحوب متأملة وجه صغيرها ، وهو يضع يديه النحيلتين على بطنها المنتفخ متعجلا مولد أخيه، لم تكن مشاق الحمل في أيامه الأخيرة أكثر إيلاما من معاناة المرض اللذي ألم بها و جعلها تتنفس بصعوبة ، بفعل الروائح الكريهة التي أضعفت رئتيها بمرور السنوات، كما أخبرها بذلك الأطباء، كانت خيوط المطر تضرب بقوة فوق سطح البيت ، محدثة ضجيجا قويا يخترق سكون الليل، كأصوات الرشاشات النارية وسط ساحة المعركة ، و الريح تعصف بالجدران ، تكاد تنسفها نسفا ، ولولا أن الأكواخ المجاورة تحمي بعضها بعضا ، لطار بيت الصفيح بعيدا في الهواء كعلبة ورقية تاركا العائلة الصغيرة في العراء ،لكن مياه الأمطار لم تكن تجد حرجا في التسرب من السقف و التسلل تحت جدران الصفيح، لتغمر الأرضية الترابية و تصل إلى كل زاوية في الكوخ الصغير، لا يسلم من البلل إلا فراش بال فوق سرير وسط الغرفة ، مصنوع من بقايا حديد عتيق ، وضعت له سيقان طويلة هروبا من المياه ، كأنه قارب يحمل مسافرين بلا رحيل ، و يقابله صندوق كبير فيه بعض الثياب المرقعة ، و غير بعيد عنهما ومن نفس صنع معدنهما ، طاولة عليها أواني معدنية مرصوفة بغير نظام ، يتجول بينها في كسل عدد من الصراصير، و تحتها قارورة غاز صغيرة عليها موقد منطفئ ، وإلى جانبها برميل ضخم و بعض الدلاء، وبجوار كل ذلك مدخل صغير منخفض مثل الغار، تغطيه قطعة قماش متسخة ، خلفها حفرة عميقة لقضاء الحاجة. في ذلك الكوخ البائس ذي الغرفة الواحدة ، كان كل شيء من حديد، السقف والجدران والأثاث والأواني.. كان سجنا بلا نوافذ مثل الصندوق المغلق لا يدخله الضوء ولا الهواء إلا عبر الثقوب، فقط المصباح الخافت كان الشاهد الوحيد على وجود الكهرباء، يصارع وميضه المتقطع، الظلام الحالك في الليل كما في النهار، كان كل شيء يعلوه الصدأ حتى الوجوه غير أن هذه كان عليها مسحة من نور و سكينة ...يتبع