في كتابه «دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية… نوادر ومواقف» الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، يُرجع مصطفى الفقي تكوّن حصيلة من ذكريات حاشدة لديه في مجالات مختلفة، إلى ظروف حياته، التي شاءت أن يتقلب في مواقع مختلفة، بعضها سياسي وبعضها أكاديمي وبعضها دبلوماسي وبعضها برلماني، بعضها في الداخل وبعضها في الخارج. هنا يسرد الفقي هذه الذكريات بغية أن يجد القارئ فيها ثقافة ومعرفة وترفيهًا، حريصًا على الإيجاز في السرد، لأن الكلمات المركزة أكثر وقعًا من الاستفاضة في السرد. يضم هذا الكتاب تسعة أبواب يتحدث الكاتب في أولها عن ذكرياته مع كبار المشايخ والأولياء، وفي آخرها يكتب عن حجرة عميد الأدب العربي على كورنيش الإسكندرية، فيما يتحدث في ما بين هذين البابين عن الحضارة الفرعونية وسر القبعة، وعن حكايات الهند وفيينا التي لا تنسى، وعن أم كلثوم وعبد الحليم حافظ في شوارع لندن، وعن الدبلوماسية وآداب تناول الطعام، وعن مواقف سياسية وحكاوى سياسية، وعن مقاطعة مبارك وعقاب السيدة الأولى له. هنا يقول الكاتب إن شرائط الذكريات تمر أمامنا من سنوات الطفولة، مرورًا بالشباب، وصولًا إلى مشارف الشيخوخة، ودائمًا ما نكتشف أن رؤيتنا للأمور قد تغيرت، وأن أساليب التفكير قد تبدلت، وتظل الذاكرة مرتبطة بشخوص معينة نتذكرها من وقت لآخر. .. شرف ووسام في سياق حديثه عن الفنان صلاح طاهر يقول الفقي إن الفنان مهما بلغت قيمته فهو إنسان من الدرجة الأولى، وموهبته الفنية تعبير عن قيمته الإنسانية، وإن الفن لغة عالمية، وإنه لم يعرف فنانًا مرموقًا إلا وهو متواصل مع العالم الخارجي، مؤكدًا قيمة الفنان في عيون من حوله. هنا يذكر الفقي مقولة صلاح طاهر له، التي يقول فيها، إنه لا يرسم ملامح الشكل وحده، لكنه يحاول إبراز الشخصية وسماتها بالريشة التي يرى أنها أقوى من الكلمة. وحين يتذكر الكاتب يومياته في الخدمة العسكرية، يقول إن الخدمة العسكرية شرف لمن يؤديها، ووسام على صدر كل مواطن شاب، وقد تعلم من الشهور التي قضاها في القوات المسلحة، أن حجم المعاناة التي يتحملها المقاتل، والنمط الخاص للمعيشة التي يجب الالتزام بها، ليست مسألة سهلة على الإطلاق، وقد اكتشف أن الذي يضحي بدمه من أجل وطنه هو أحق الناس بالاحترام والتعظيم، لذلك يكرر دائمًا المجد للشهداء. في ذكرياته هذه يعلن الفقي أنه مصاب بفوبيا المصاعد والأماكن المغلقة، وأنه كان يكره الدراسة في المرحلة الابتدائية، وكان يلعن من أدخل المدارس في مصر، مؤكدًا أن التفوق الدراسي ليس شرطًا للنجاح في الحياة العملية. كذلك يخبرنا أنه ينتمي إلى نوع من البشر إذا طال الحديث أمامه وأصبح رتيبًا مكررًا، فإنه يغلق عينيه يقظًا حيث يبدو لمن يراه أنه نائم، والحقيقة أنه يتابع كل ما يدور حوله وهو نصف نائم، سعيدًا بأن الله وهبه القدرة على الاسترخاء في أي مكان، إذا سمحت الظروف، شرط ألا يؤثر ذلك على يقظته الذهنية وقدرته على التفكير. يكتب الفقي عن لقائه الوحيد مع سيدة الغناء العربي، التي شدت للملوك والرؤساء، وغنت لمصر أجمل الألحان، وتركت تراثًا للمحبين والعشاق تزداد قيمته مع مرور الزمن ..أحداث عارضة وفي حديثه عن يوم انتحار سليمان خاطر، يكتب الفقي قائلًا، إن الصراع العربي الإسرائيلي يدخل مرحلة جديدة، بعد نقل الولاياتالمتحدةالأمريكية سفارتها إلى القدس، وإعلان الرئيس الأمريكي ترامب عن نواياه في تعزيز سياسته الداعمة لإسرائيل، إلى جانب تشدده العام أمام الدول الصغيرة في كل أنحاء الدنيا. الفقي يقول ذلك لرؤيته ضبابًا كثيفًا يغلف أجواء العالم، ويحجب الرؤية ويمنع الحقيقة من الوصول إلى أصحابها، وقد اكتشف أن الأجيال الجديدة، لديها صبر على الوقت وجلد على التواصل يسمح لهم بتقديم الحلول المختلفة للأزمات القائمة. هنا نعرف من خلال الفقي أن هناك أحداثًا عارضة تحدث في حياتنا، غير أنها تترك بصمات غائرة على مشاعرنا، وأن الحياة تعلمنا النسيان والغفران معًا، كما أن ضبط النفس، قضية تجعلنا في وضع أفضل دائمًا، أما الانفعال وغضب الإنسان وهو مرهق، فقد يؤدي بصاحبه إلى فقدان أصدقائه، واكتساب خصم جديد كل يوم، خاصة في ما يتعلق بالمواقف شديدة الحساسية بالغة التعقيد، وأن الاعتدال هو أفضل الطرق لتفادي المتاعب والآلام. وهنا أيضًا نعرف أن مصر هي نموذج للعناق التاريخي بين الإسلام والمسيحية، على أرض الحضارات العظيمة والثقافات الرفيعة والديانات الكبرى، وأن الثقافة المصرية لها قيمتها ودورها الفاعل، كمركز إشعاع عبر التاريخ، وأن معاناة كل الرؤساء هي الحرمان من الحياة الطبيعية، وهذه هي محنة الرؤساء، وأزمة العظماء وضريبة الشهرة. كما نعرف أن ابن المسؤول الكبير إذا جرت تربيته بمجموعة من القيم، فإنه يكون نموذجًا مبهرًا، وإذا جرى إهمال تربيته في غمار مسؤولية أبويه فإنه يكون نموذجًا لتربية الخدم وبعض موظفي المكاتب، وما أكثر النوادر التي نلاحظها في تصرفات بعض الزعماء، وهي تؤكد أنهم جميعًا بشر عاديون، بعيدًا عن الأنظار، وأنهم يتصرفون بعفوية شديدة وتلقائية طبيعية، لا زعامة فيها ولا كاريزما ولا زيف. هنا يحكي الفقي عن نوادره مع الحذاء الضيق الذي لا يمكن تحمل الآلام التي تنتج عن ضيقه، وعن نوادره مع المحمول قائلًا، إنه لا يعرف كيف كنا نعيش قبل وصول الجهاز الهاتفي الصغير إلى أيدينا. ..مرايا وعدسات هنا أيضًا يكتب الفقي عن لقائه الوحيد مع سيدة الغناء العربي، التي شدت للملوك والرؤساء، وغنت لمصر أجمل الألحان، وتركت تراثًا للمحبين والعشاق تزداد قيمته مع مرور الزمن، كما يكتب عن أيام عبد الحليم حافظ الأخيرة في لندن، وعن الفن الذي يعتقد أنه أداة كبرى في تحويل مسار الشعوب وتحديد أقدارها. هنا وهو يكتب عن أساليب العصر ودهاليز الدبلوماسية وكواليس العمل في الخارج، وعن النوادر التي حدثت في أوساط السلك الدبلوماسي والدوائر السياسية، وعن نوادر السيارات والطائرات، يقول الفقي إنها الحياة التي نرى فيها نماذج وأمثلة، بحيث تبقى لقطات في الذاكرة، لا تبرحها أبدًا، بل لعلها تعاود الإلحاح عليها، كلما تقدم العمر بصاحبه. إنها مرايا وعدسات للحياة في كل زمان ومكان، وإن الحياة ليست حقيقة، بل طريقة، كما أن الأمور تتغير وفقًا لتطور الزمان واختلاف المكان، فضلًا عن نوعية الإنسان وتلك أمور تم إدراكها ومعرفة قيمتها على مرّ العصور. نهاية يتعجب مصطفى الفقي في كتابه هذا معلنًا عن كثرة ما يوجد في عالمنا من غرائب وعجائب وأساليب حياة وسياسات وحكم، مؤكدًا أن مصر كانت دائمًا ولا تزال وستظل عصية على أعدائها، قوية أمام خصومها، قائدة في الحرب، ورائدة في السلام.