الأستاذ/ الحسين يختار (مهتم بالتراث الإسلامي -مستغانم) ألف الأديب مصطفى الرافعي كتاب "المساكين" في العقد الثاني من القرن الماضي، وأورد في مقدمته: "هذا كتاب المساكين فمن لم يكن مسكيناً لا يقرؤه لأنه لا يفهمه، ومن كان مسكيناً فحسبى به قارئاً والسلام" ومن أوصاف الثغلب التي ذكرها الدميري 808ه في كتاب الحيوان: "كثير المكر ومن قبض عليه يعرف عنه أكثر". وفي محاضرات الأدباء للراغب الاصبهاني أن سليمان بن عبد الملك لما طلب من بلال بن أبي بردة أن يصف له الحجاج بن يوسف الثقفي بايجاز، أجاب على الفور: "يا أمير المؤمنين كان الحجاج يتيزين بزينة المومسة، فإذا صعد المنبر تكلم بكلام القسيسين، وينزل فيعمل بعمل الفراعنة!" والواضح من هده العبارات تضمنها لإشارات تغني عن بيان أسباب ودواعي كتابة المقال، والتوضيح بعد هدا إلا كما قال ابن الذروي:
أقام بجهد أياما قريحته **** وفسر الماء بعد جهد بالماء
والمقصود أن التفنن فى صناعة الكلام والتقلب في المواقف من الموضات التي يلبسها الوصوليون والانتهازيون الذين يعيشون على المدح الرخيص والتزلف المقيت وحينما يتغلب الطمع وتستحكم قبضته على الطباع يهون عند هؤلاء كل باهظ ورفيع، وتتهاوى كل القيم وتنقلب الموازين حتى يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا،و حتى لا يغدو حظ المظلوم الا كحظ اليتيم على مائدة اللئيم أو أحقر.
ومخالفة الفعل للقول مع غرور التفنن في زخرف القول، من اقدم الافات والعلل التي دبت عدواها في االنفوس البشرية لجميع الأمم والشعوب. ومن المؤسف أن المجتمعات الإسلامية لم تكن في منأى عن هده الافة، فلم تلبث أن عرفت هي الاخرى الوانا منها وصارت واحدة من الامم التي تسربت اليها وتأثرت بها. عقد وكيع بن الجراح وهو من سادات التابعين وصلحائهم، بابا في كتاب الزهد بعنوان "الصمت وآداب اللسان" واصفا اياه بَابٌ جَامِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَبْوَابِ ثم ضمنه حديث ابن مسعود: "ان الناس قد احسنوا القول كلهم فمن وافق قوله فعله فدلك الدي اصاب حظه ومن خالف قوله فعله فانما يوبخ نفسه". وفي رياض الصالحين للإمام شرف الدين النووي باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وخالف قوله فِعله، جمع فيه كل نصوص الوحي الكريم الدالة على تحريم مخالفة الفعل للقول منها قول الله تعالى: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقول تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" وقوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب عليه السلام" وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ" وفي بعض الشروح المعاصرين لكتاب النووي: "لما كان الباب الذي قبله في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان المناسب ذكر هذا الباب في تغليظ عقوبة من أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله – وذلك أن من هذه حالة، لا يكون صادقاً في أمره ونهيه".
ومن الاثار النبوية الصريحة التي ساقها المؤلف دعما للمراد: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فليقي في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدورُ الحمارُ في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت أمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".
فالملاحظ ان التشبيه في هدا الموضع جاء بأغبى الحيوانات الحمار- وهو انسب مايليق بهؤلاء الدين يظنون انهم استغبوا الناس فاحتالوا على البسطاء والعامة تحت مظلة الشرع والدين. وأغرب مافي الأمر أن تجد في هؤلاء من يحسن بلاغة المحاضرا ت ويجيد إدارة الحلقات غير أن الناظر إلى حالهم لا يجده إلا كحال الدي قيل عنهم: إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا… ولكن حسن القول خالفه الفعل
وذموا لنا الدّنيا وهم يرضعونها… أفاويق حتى ما تدّرُّ لنا رسل
و الحق ان من كانت هده حالته لا يكتب لحديثه ولا لوعظه القبول ولو طاول عنان السماء، وكيف يستقيم الظل والعود اعوج، والقاعدة أن الولد للفراش وللعاهر الحجر. ولما سئل قس بن ساعدة وهو خطيب العرب وحكيمهم: ما أفضل المَعرِفة؟ قال معرفة الرجل نفْسَهُ؛ قِيل له: فما أَفضلُ العِلْم؟ قال: وقوفُ المرءِ عندَ عِلْمه؛ قِيل له: فما أفضلُ المروءة؟ قال: استبقاءُ الرجل ماء وجهه. ولأن زيف المظاهر وخداعها ومخالفتها للبواطن من أشد الامور مقتا للطبائع السليمة، عاتبت الاعرابية – بصفاء فطرتها – من تزيا بالفقهاء ولم يكن، منهم وبالغت حتى لم تجد له فرقا بينه وبين ماكان يمتطي من الدواب: وكم من عمامة على رأس**** ما فيها علم ولا عقل وكم من لحية طالت على ذقن جاهل*** وما تحتها إلا الغباوة والجهل و كم راكب بغل له عقل بغله*** تأمل ترى بغلا من على ظهره بغل
ولما راسل عمر ابن الخطاب أبا موسى الاشعري في وصيته الشهيرة حذره "… من تزين بما ليس فيه شانه الله". ومما هو متفق عليه بين عقلاء البشر أن الجهل رأس كل بلية وشر، والمخاطر جميعها مردها اليه ولازمة عنه، ولا غرو ان قيل ابتلاؤك بجاهل خير من ابتلاؤك بنصف جاهل، وفي الاخبار النبوية أن كثرة الجهل وفشوه بين الناس وموت العلماء وندرتهم من الأشراط التي تقوم عليها الساعة.
ولما سئل النبي في حديث الرويبضة الشهير الدي أورده البخاري وغيره من أصحاب السنن عن المعنى المراد به أجاب بأنه : الرجل التافه ينطق في أمر العامة. وفي حديث أخر السفيه يتكلم في أمر العامة، وورد ايضا بأوصاف ومعان أخر غير هدا وأيا ما كان المعنى المقصود من الرويبضة فالقاسم المشترك واحد بين كل هده النعوت هو الظلم والفساد والحماقة والتفاهة والندالة والحقارة وكل مرادف لهدا وداك. ومن المسلم به أن أصحاب هده الأوصاف لم ينتسبوا للعلم الا مطية لأغراض الدنيا ولم يكن طلبهم بالاساس له الا كما قيل:
ودخل فيها جاهلا متواضعا **** وخرج منها جاهلا مغرورا
ولما كان ذلك هو هدفهم وغرضهم صارت منزلتهم لا تعدو ان تكون كواو عمرو الزائدة او نون الالحاق فليس للناس حاجة بهم. والأخطر ما انطوت عليه نفوسهم هم: البحث عن الشهرة ولو على خطى الاعرابي الدي بال بماء زمزم أيام الحج الأكبر وحين نهره الناس واستغربوا لصنيعه أجاب: "أردت ان يدكرني الناس ولو باللعن".
لقد ادرك علماء الامة وفقهائها قديما وحديثا خطورة الفكرة التعالمي ووباله على الامة وخطورة اقتحام ساحة الفتوى والوعظ والارشاد والاقراء من دون أهلية ومن دون هدي وعلم واخلاص وحرصوا على الجام من ليس اهلا لدلك حتى يتدرب ويرتاض وكان الخطيب البغدادي أشهر من نادى بهدا وشدد في الشروط حتى قال: "أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخا استثبات وترك عجلة.بصيرا بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة، حافظا لدينه، مشفقا على أهل ملته، مواظبا على مروءته، حريصا على استطابة مأكله؛ فإن ذلك أول أسباب التوفيق. متورعا عن الشبهات، صادفا عن مفاسد التأويلات، صليبا في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتها، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة، واعتوره دوام السهر، ولا موصوفا بقلة الضبط، منعوتا بنقص الفهم، معروفا بالاختلال: يجيب عما يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه. [email protected]