في مدينة عنابة حيث يلتقي البحر بالغابة وتتسلل الطبيعة إلى كل زاوية، وُلدت موهبة فنية نادرة اسمها محمد سعيداني. ليس فنانا تقليديا فحسب، بل عاشق للطبيعة، قارئ لتفاصيلها الخفية، وصانع تحف تروي في صمتها، حكايات من الجمال، والدهشة. من بقايا البحر والحطب، من قواقع نائمة على الشواطئ، ومن مواد يعدُّها كثيرون "عديمة القيمة"، يصوغ محمد أعمالاً فنية تنبض بالحياة، تُعيد تعريف الجمال من زاوية مختلفة... زاوية ترى في المُهمل إمكانيات كامنة. بدأت رحلته حين قرر أن يُزيّن بيته بلمسة من صنع يده. ومن هذه التجربة البسيطة انفتح أمامه عالم واسع من الإبداع البيئي. جمع ما تهبه الطبيعة وما تطرحه الحياة: الحطب، قواقع البحر، الأسلاك المعدنية، الأنابيب البلاستيكية، الإسفنج المُلقى، وأوراق الصبّار... ليحوّلها إلى لوحات فنية، وإطارات تحمل بصمة الأرض، تجمع بين روح البحر، وهدوء الغابة، وقسوة الصحراء. كل قطعة ينجزها ليست ديكور فحسب، بل صوت للطبيعة، يُعيد للجمادات حقها في التعبير. عندما تلتقي الحرفة بالفنّ لم تكن علاقة محمد سعيداني بالبحر مجرد إلهام عابر، بل صداقة متجذرة تعود إلى طفولته في أحياء عنابة البحرية؛ إذ نشأ في بيئة مغموسة بأصوات الصيادين، ورائحة الشباك المالحة، وضجيج المراكب العائدة من رحلاتها اليومية. من هناك بدأ يكوّن علاقة فريدة مع أدوات الحرفة البحرية. تجوَّل في أرصفة الميناء، التقط الشباك المهترئة، والحبال المهملة، والصدفيات المتناثرة، وحتى الخشب الطافي، ليعيد توظيفها في قطع فنية تحمل بين طياتها عبق البحر، وعرق الحرفيين، وحنين المدينة. أعماله لا تكرّم فقط الطبيعة، بل تُحيي ذاكرة الصياد الحرفي في عنابة، وتمنح قطاع الصيد البحري بعدا جماليا وإنسانيا، يستحق التأمل، والاعتراف. المرأة الإفريقية... رمز الحضور والجمال في تحوّل نوعي وملهم، اختار محمد أن يجعل المرأة الإفريقية محور فنه. يراها تجسيدا للخصب، والقوة، والجمال الطبيعي. في أعماله تطلّ المرأة ك"عروس بحر"، تجمع بين الريفية البسيطة، والمهابة الهادئة. تحاكي حكايات الحياة، وتُترجم صبر الطبيعة في وجه التحديات. هذا التوجّه الفني أثار إعجاب الوفد النيجيري الذي زار عنابة مؤخرا، حيث اقتنى معظم أعماله خلال المعرض، في اعترافٍ صريح بقوة تعبيره، وعالميّة رؤيته. من الطفولة إلى الضوء بدأ كل شيء في الطفولة، حيث رافقه شغف الرسم مبكرا قبل أن يخفت لسنوات، ثم يعود إليه الإلهام بقوة مضاعفة. شارك في عدة معارض محلية، وكان أول ظهور رسمي له خلال فعالية "أيام الحرفي"، حيث نال دعما وتشجيعا من القائمين على الشأن الثقافي. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف يداه عن تحويل الخامات المنسية إلى تحف تنبض بالحياة، تملأ الأمكنة بدفء يصعب تجاهله. البونزاي اليابانية... عندما تتعانق الثقافات ولعه بشجرة البونزاي اليابانية قاده إلى مغامرة فنية جديدة. من أسلاك معدنية مهملة أعاد تشكيل هذه الشجرة الرمزية؛ في توليفة بصرية تمزج بين الفن الآسيوي العريق واللمسة المغاربية الأصيلة. والنتيجة قطع فنية، تعبّر عن تلاقي الثقافات، وتُجسّد مفهوم الانسجام داخل التعدد. فنّ يطلب الاعتراف لا الإحسان محمد لا يطلب الكثير، فقط فضاء دائما يحتضن أعماله، ومرافقة حقيقية من المؤسسات الثقافية. يؤمن أن لكل مدينة قصة ترويها الطبيعة، لكن من يُترجمها؟ المبدعون أمثاله بحاجة إلى احتضان، لا تهميش. وكما قال في أحد لقاءاته: "لا أحتاج لورشات مكلفة؛ الطبيعة ورشتي، والشارع معرضي... فقط أطلب أن يسمع أحد هذا الفن حين يتكلم" . محمد سعيداني هو ذاك الفنان الذي يرى في قوقعة بحر أو سلك معدني، فرصة لإحياء الجمال. لا ينتظر أن تأتيه الخامات، بل يبحث عنها، يتنفسها، ويحوّلها إلى قطع تنبض بحياة جديدة؛ فهل تنصت عنابة لصوت فنّانها؟ وهل تمنح الطبيعة عبر أنامله، مساحة تُعبّر فيها عن ذاتها؟