الشيخ: قسول جلول إنّ السعادة مطلب جميع البشرية ومقصد كلّ الناس كلٌّ يرجوها وكلٌّ يطلبها وكلٌّ يسعى في نيلها وتحصيلها. ومن يتأمَّل أحوال الناس وآراءهم في سُبل نيل السعادة يجد وجهات متباينة وآراءً مختلفة بعض الناس بل كثير منهم يطلب سعادته فيما فيه شقاؤه وهلاكه في الدنيا والآخرة فمن الناس من يطلب السعادة بالجاه والرئاسة ومنهم من يطلب السعادة بالغنى والمال ومنهم من يطلب السعادة باللهو واللعب ولو كان بالحرام ومنهم من يطلب السعادة بتعاطي أمور محرمة كالخمور والمخدرات ونحو ذلك من المسكرات والمفترات ومنهم... ومنهم..... وكل من هؤلاء وهؤلاء إن قيل له عن ماذا تبحث؟ وأي شيء تطلب؟ يقول أبحث عن السعادة. أريد الراحة.. أريد اللذة.. أريد قرة العين.. أريد انشراح الصدر.. أريد طرد الهموم وزوال الهموم والبعد عن الأحزان والآلام ولكن الآراء والأفهام تتباين والعقول والمدارك تتفاوت ولكلّ وجهته هو مولِّيها. بل ربما بعض الناس بل كثير منهم يطلب سعادته فيما فيه شقاؤه وهلاكه في الدنيا والآخرة . ولكن المسلم بما آتاه الله تبارك وتعالى من بصيرة بدينه ومعرفة بهدى ربِّه جلّ وعلا يدرك أن سعادته بيد الله وأنه لن ينالها إلا برضا الله سبحانه وتعالى وهذه جملة مختصرة تغني عن كلام مطول يدرك أن سعادته بيد الله وأنه لن ينالها إلا برضا الله سبحانه وتعالى. قال جلّ وعلا {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} طه: ونفي الضلال فيه اثبات الهداية ونفي الشقاء فيه اثبات السعادة. وقال تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} الآية 1طه. أي بل أنزلناه عليك لتسعد ففي أوامره سعادة وفي مناهيه سعادة وفي تدبره سعادة وفي قراءته سعادة ......فالسعادة تكون في طاعة الله والسعادة في الصلاة والسعادة في بر الوالدين فالسعادة في الإحسان .... فالسعادة بيد الله ولا ينالها العبد إلا بطاعة الله تبارك وتعالى ومهما بحث الإنسان عن سعادة نفسه في غير هذا السبيل فلن يحصل إلا الشّقاء والنّكد والنّصب والتعب وسوء الحال وضياع الأوقات في غير طائل. فالسعادة بيد الله وهو جلّ وعلا ميسر الأمور وشارح الصدور والمعين والهادي والموفق بيده جلّ وعلا الأمور يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعزّ ويذلّ ويقبض ويبسط ويهدي ويضل ويغني ويفقر ويضحك ويبكي {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} النجم الآية 26: فالأمر كلّه بيد الله. وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير}. الآية 26 سورة آل عمران فالأمر كلّه بيد الله {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} الآية 1 سورة الملك. فأساس قاعدة السّعادة ومرتكزها الذي عليه تدور ومحورها الذي إليه ترجع هو الإيمان بالله تبارك وتعالى الإيمان به جلّ وعلا ربّاً وخالقاً ورازقاً متصرِّفاً ومدبِّراً معطياً ومانعاً وخافضاً ورافعاً قابضاً وباسطاً. والإيمان بأنه جلّ وعلا المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. والإيمان بأنه جلّ وعلا الأمور كلّها بيده وبقضائه وقدره لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وعلى ضوء هذا الأساس وبناء على هذا المرتكز الذي هو الإيمان بالله وبما يقتضيه الإيمان من الطاعات والأعمال الصالحات تكون السعادة. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل الآية 97. فالحياة الطّيبة التي ليس فيها نكد ولا مكدرات ولا آلام ولا هموم ولا غموم هي حياة الإيمان وحياة الطاعة ولهذا فإن المسلم دائماً وأبداً يعيش حياة الهناء والسعادة وقرّة العين بما أكرمه الله به من إيمان ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها)) أي أصلها الذي عليه تبنى وأساسها الذي عليه ترتكز. فأهل الإيمان هم أهل السعادة ومن فارقه الإيمانُ فارقته السعادة وكان من أهل الشّقاء في الدنيا والآخرة. ولهذا ينبغي أن يُعلم أن الإيمان لذة وسعادة وجنّة معجَّلة للمؤمن في الدنيا ولهذا قال شيخ الإسلام مقرِّراً هذا المعنى : ((في الدنيا جنّة من لم يدخلها لم يدجل جنةَ الآخرة)) يقصد جنّة الإيمان ولذّة الإيمان وحلاوة الإيمان وما يجده المؤمن في إيمانه من قرّة عين وراحة قلب. يقول عليه الصلاة والسلام (جعلت قرة عيني في الصلاة) ويقول: (أرحنا بالصلاة يا بلال) فالإيمان وتوابع الإيمان ومتمماته ومكملاته هذه هي السعادة الحقيقية. مفاتيح السعادة وهي سعادة في الدنيا والآخرة. ولهذا فإن من كان من أهل الإيمان تحقيقًا له وتتميماً وقياماً بمقتضياته وما يستوجبه الإيمان نال من السعادة بحسب ما عنده من الإيمان. وإذا ضعف الإيمان ضعف حظه من السعادة وإذا ذهب الإيمان ذهبت السعادة وفارقت الإنسان. فبالإيمان يسعد وبالإيمان يطمئن وبالإيمان تقر العين وبالإيمان ينشرح الصدر وبالإيمان يرتاح البال. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا ِبذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب } الآية 28 سورة الرعد فالسعادة أمر مرتبط بالإيمان وجوداً وعدماً كما جاء في الحديث الصّحيح: ((عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَد إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)) فالمؤمن في سرّائه شاكر وفي ضرّائه صابر وفي وقوعه في الذنب مستغفر. وهذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد: إذا أذنب استغفر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ابتلي صبر. وقد قرّر هذا المعنى أنّ العبد المؤمن في حياته لا يخلو من هذه الأحوال الثلاثة. الأمر الأول: إذا أذنب استغفر لأنّ المؤمن يدعوه إيمانُه عندما يذنب إلى الإنابة والتوبة. ولهذا نادى الله عز وجل أهلَ الإيمان إلى التوبة باسم الإيمان فالمؤمن إذا أذنب فزع إلى إيمانه فأرشده إيمانه إلى التوبة والاستغفار وهداه إيمانه إلى أنّ له ربّاً توّاب غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويغفر الذنوب والخطيئات ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر] فيدعوه إيمانه إلى الاستغفار وإلى الإنابة والرجوع إلى الله عزّ وجلّ ومراقبته سبحانه وتعالى فإنّ مَن حقّق الإيمان ومراقبة الرحمن يجد لذةً لا تقارَن بلذة أخرى والأمر الثاني: إذا أُنعم عليه شكر نعم الله على عبده كثيرة لا تعد ولا تحصى نعم في بدنه ونِعم في ماله ونِعم في ولده ونعم في مسكنه وفي جميع شؤونه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:الآية 14] فالسعادة تكون في حمد الله وشكره على نعمائه وعلى مَنِّه وفضله سبحانه وتعالى وعطائه. والشكر سبب زيادة النّعم ودوامها وقرارها وثبوتها ونمائها وبركتها والمؤمن الشاكر يجد لذة الشكر ولذة الحمد ولذة الاعتراف بنعمة المنعِم سبحانه فتقرّ عينُه بذلك. والأمر الثالث: إذا ابتلي صبر قال جلّ وعلا {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَة ِإلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.الآية 11 سورة التغابن قال علقمة رحمه الله: ((هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم)). ولهذا المؤمن في نعمائه يفوز بثواب الشاكرين وفي مصابه وضرائه وابتلائه يفوز بثواب الصابرين. فهو مأجور على كل حال فهو على خير في كل حال. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير..)) وإذا تأمَّل المسلم في هذا عرف قيمة الإيمان ومكانته العظمى في تحصيل السعادة واكتسابها. هادياً ومسدّدا وقائداً إلى كل فضيلة وخير وهنا تتحقق السعادة.