قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ هذه قصة مؤمن سورة يس قوله سبحانه: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا 0لْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ 0تَّبِعُواْ 0لْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] يدل على أن الرسولين الأولين اللذين كذَّبهما القوم كان لهما أنصار مؤمنون بهما مُصدِّقون لدعوتهما فلما جاء الثالث وأيضاً كذَّبه القوم أخذتْ هؤلاء المؤمنين حَمِيَّة الحق وكان منهم هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لِنُصْرة الحق وإعلاء كلمته وقالوا: اسمه حبيب النجار. ونلحظ في هذه الآية أولاً قوله سبحانه: {مِنْ أَقْصَا 0لْمَدِينَةِ} [يس: 20] أنه لم يكن قريباً من مكان هذه المناظرة الكلامية وأنه تحمَّل المشاق في سبيل نُصْرته للحق وهذا دليل على قوة الطاقة الإيمانية عند هذا الرجل ودليل أيضاً على أن الرسولين السابقين قد بلغت دعوتهما أقصى المدينة. *همّة الرجل ثم وصفه بأنه (رَجُلٌ) ولم يَقُلْ فلان فذكر الصفة البارزة في تكوينه أنه رجل. وهِمَّة الرجل هي التي تحدد مقدار رجولته فرجل يريد الحياة لنفسه فقط والكل يخدمه يرى كل شيء لنفسه ولا يرى نفسه لأحد هذا رجل وطنه نفسه وذاته ورجل وطنه أهله وعياله يُعدِّي إليهم منفعته ورجل وطنه أمته ورجل وطنه العالم كله مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو فلسفة الرجل. إذن: هِمَم الرجال هي التي تحدد أوطانهم ومنازلهم وأعلى هذه المنازل رجل وطنه العالم كله لأن الخَلْق كلهم عيال الله فمَنْ يحب الخير لهم وينثر عليهم ما ينفعهم فقد استأمنه الله على رزق العباد. ومثّلنا لبيان ذلك قلنا: هبْ أن لك أولاداً واحداً منهم يأخذ مصروفه فينفقه على ملذاته ورغباته وفيما لا يفيد والآخر يشتري بمصروفه حلوى ويُوزِّعها على إخوته الصغار فأيهما تُؤثِره بعد ذلك وأيهما تزيده؟ كذلك اليد المناولة عن الله لخَلْق الله وكأن الله يقول له: أنت مأمون على نعمتي مأمون على خَلْقى ومن ذلك قول الشاعر: وَإنِّي امْرُؤٌ لاَ تَسْتَقِرّ دَرَاهِمِي عَلَى الكَفِّ إلاَّ عَابِرَاتِ سَبيلِ وقوله {يَسْعَىٰ} [يس: 20] يعني: أن مجيئه لم يكُنْ عادياً إنما مسرعاً يجري {قَالَ يٰقَوْمِ 0تَّبِعُواْ 0لْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] وقوله {يٰقَوْمِ} [يس: 20] نداء لتحنين المنادَى كأنه يقول: يا أهلي يا عشيرتي يا أبنائي فذكر ما بينه وبينهم من صلات المودة والرحمة. وقوله {0تَّبِعُواْ 0لْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] يدل على تأييده لهم وهو هنا يذكر الحيثية الأولى لهذا الاتباع هي أنهم مرسلون ثم يذكر لهم حيثية أخرى فيقول: {0تَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [يس: 21] يعني: لم يطلبوا منكم أجراً على دعوتهم. وكلمة {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} [يس: 21] لا تُقال إلا إذا كان العمل الذي قام به يحتاج إلى أجر والرسول ما جاء إلا لينفع المرسَل إليهم فهو منطقياً يحتاج إلى أجر لكن مَنْ يستطيع أنْ يوفيه أجره؟ لا أحد يوفيه أجره إلا الله لأن نَفْع الرسول يتعدَّى نفْع الدنيا إلى نفع الآخرة فمَنْ من البشر يعطي الرسول ما يستحقه؟ لذلك رأينا الرسل جميعاً يقولون هذه الكلمة {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى 0للَّهِ} [يونس: 72] يعني: أنتم أيها القوم لا تملكون مقدار أجري ولا تقدرون على تقييمه إنما يعطيني أجري الذي أعمل من أجله. كل رسل الله قالوا هذه الكلمة إلا رسولين هما: سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى عليهما السلام لماذا؟ قالوا: لأن إبراهيم كانت أول دعوته لأبيه آزر ولا يليق أنْ يطلب منه أجراً على دعوته إياه إلى الحق كذلك سيدنا موسى أول ما دَعا دَعا فرعون الذي ربَّاه في بيته وله فَضْل عليه فكيف يطلب منه أجراً؟ *مهتدون في أنفسهم هادون لغيرهم وقوله سبحانه: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [يس: 21] حيثية ثالثة لاتباعهم فهم مُرْسَلُون من قِبَل مَنْ أرسله الله والله لا يرسل إلا مَنْ يهدي إلى صراط مستقيم يوصل إليه سبحانه. فهؤلاء المرسلون مهتدون في أنفسهم وبالتالي هادون لغيرهم فهو إذن يذكر الأمر وعِلَّته فهؤلاء الرسل لا يسألون أجراً ولا يدعون إلى ضلال بل إلى هدى. ثم يلتفت هذا الرجل إلى نفسه فيقول للقوم: أنا لا آمركم أمراً أنا عنه بنَجْوَة ولو كنتُ سأغشُّكُم فلن أغشَّ نفسي {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ 0لَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] أي: خلقني من العدم فهو أوْلى بالعبادة هو الذي صنعني أوجدني من عدم وأمدَّني من عُدم ولا زال يُوالي عليَّ نعمه إذن: ما يمنعني أن أعبده وهو أَوْلَى بالعبادة ولو لم تكُنْ عبادتي له إلا لأُكافئه على نعمه دون نظر إلى ثواب لكانتْ عبادته واجبة. وهذا ليس كلامَ رسول إنما كلام رجل مؤمن متطوع باشر الإيمانُ قلبه فأراد أنْ يزكّي إيمانه وأنْ يُعدّى هدايته إلى غيره من باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . الحق سبحانه خلق الخَلْق أولاً ثم أرسل الرسل بالمنهج لهدايتهم الرسل بدورهم بلَّغوا الأصحاب ومَنْ بلغه شيء تحمله كما يتحمله الرسول لذلك قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها فرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع . إذن: مسئولية الدعوة يتحملها أولاً الرسل ثم المؤمنون بهم الذين بلغتهم الدعوة وهذا التحمُّل ليس تفضُّلاً إنما تكليف من الله لذلك قال سبحانه: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى 0لنَّاسِ وَيَكُونَ 0لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] فكما شهد الرسول أنه بلغكم فواجب عليكم أنْ تشهدوا على الناس أنكم بلَّغتموهم لأن المؤمنين بالرسالة امتداد للرسول. لذلك رأينا هذا الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لإعلاء كلمة الحق وتأييد الرسل لم يكن رسولاً ولم يكلِّفه أحد بهذا إنما تطوَّع به لأن طاقة الإيمان عنده دفعته إلى هذا الموقف.ثم نراه يُطبِّق المسألة على نفسه أولاً فيقول: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ 0لَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] وهذا تلطُّف في عرض الدعوة وأحرى أنْ تُقبل. وقوله: {وَمَا لِيَ} [يس: 22] كأنه يتعجب من أمر نفسه لو أنه لم يؤمن بالذي فطره والتعجب من النفس أصدق ألوان التعبير كأنه لا يماري ولا يداهن ويقول ما في نفسه كما قال سيدنا سليمان - عليه السلام: {مَالِيَ لاَ أَرَى 0لْهُدْهُدَ} [النمل: 20]. فالجواب ليس عند الغير بل عنده هو كأنه يقول: لا بُدَّ أن يكون الهدهد موجواً لكني لا أراه فالقاعدة أنه يستعمل الكل والكل موجود فالعجب عندي أنا: ما لي لا أراه ثم يعيد الأمر {أَمْ كَانَ مِنَ 0لْغَآئِبِينَ} [النمل: 20] يعني: إما أنْ يكون المانع من عندي أنا أو من عنده كأنه يُشكِّك في الأول ثم يُدقِّق فيجده من عنده هو.