انطلقت، أول أمس، فعاليات الندوة العلمية الموسومة ب"حماية وحفظ ورقمنة المخطوطات" بالمكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية بعنابة، من تنظيم مديرية الثقافة والفنون لولاية عنابة، وبالتنسيق مع مديرية الشؤون الدينية والأوقاف. انبعثت رائحة الورق القديم الممتزج بشغف الباحثين في أروقة المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية، التي تحوّلت، مساء أول أمس، إلى فضاء نابض بالأسئلة، محاط بهالة من الوقار، حيث اجتمع عشاق التراث ومختصو صيانة الذاكرة المكتوبة في هذه الندوة التي تُختم اليوم. هذه الندوة لم تكن مجرّد نشاط أكاديمي تقليدي، بل أقرب إلى نداء جماعي للضمير الثقافي، لإعادة الاعتبار لتلك الكنوز الورقية التي صمدت عبر القرون، وظلت شاهدة على عبقرية الإنسان الجزائري والعربي، من علماء، وفلاسفة، ومتصوفة ومؤرخين. وفي افتتاح الجلسة، أكد مدير المكتبة الوطنية الجزائرية الدكتور منير بهادي، أن "المخطوطات ليست مجرد أوراق صفراء... إنها نبض أمة"، داعيا إلى رؤية جديدة تتجاوز الحفظ الفيزيائي، نحو ربط المخطوط بالحياة اليومية، والتعليم، وبالهوية الجماعية، وجعل رقمنته أولوية لا رفاهية. الخبراء، من جهتهم، توغلوا في تفاصيل شديدة الدقة، تحدثوا عن طرق التعقيم، والورق الحمضي، والأحبار العضوية، وتآكل الصفحات، لكنهم أيضا، عرجوا على الإشكاليات الأكبر: كيف نحمي مخطوطاتنا من النسيان؟ من التهريب؟ من البيروقراطية؟ ومن الإهمال المؤسسي؟. البرنامج العلمي للندوة عرف، أيضا، تنظيم ورشات تقنية تطبيقية حول صيانة وترميم المخطوطات، أشرف عليها مختصون من المكتبة الوطنية الجزائرية، وشارك فيها تقنيون شباب وطلبة من شعب التوثيق والمكتبات، حيث تعرّفوا عمليا على طرق فرز المخطوطات، وتقنيات الحفظ اليدوي، وخطوات الرقمنة الآمنة دون الإضرار بالمواد الأصلية. ولم تخلُ الجلسات من عرض نماذج حية؛ مثل صور نادرة لمخطوطات جزائرية تم استرجاعها أو إنقاذها من التلف، وشهادات ميدانية من أخصائيين في الترميم اليدوي، بالإضافة الى مداخلات شبابية، تعكس اهتمام الجيل الجديد بهذا التراث الهادئ والمثير في آن واحد. الندوة شكلت، كذلك، فرصة لإعلان مشاريع قادمة، من بينها إطلاق برنامج مشترك بين المكتبة الوطنية وعدد من المراكز الجامعية لإنشاء فرق بحث ميدانية، تمس مختلف ولايات الوطن، بهدف جرد المخطوطات المهملة في الزوايا، والمكتبات الخاصة، وحتى البيوت القديمة. وفي ختام هذا اللقاء، ساد شعور عام بأن المخطوط الجزائري لم يعد ملفا تقنيا مؤجلًا، بل أصبح أولوية ثقافية وإنسانية، تستحق الانخراط الجماعي فيها، كلٌّ من موقعه. وفي زوايا المكتبة وبين رفوفها العالية، كان المخطوط حاضرا بروحه، كأنه يصغي لمن يتحدث عنه، يبتسم بخجل، وربما يقول في سرّه: "أخيراً، هناك من يصغي لي ".