بقلم: ناصر السيد النور* كشفت خطة الأمريكي دونالد ترامب الاستراتيجية الصادرة في نوفمبر الماضي (استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدةالأمريكية) عن خارطة طريق للولايات المتحدة لا تختلف كثيرا في تفاصليها عن الشعارات الديماغوجية التي يصرح بها رئيسها منذ برنامجه الانتخابي في فترة رئاسته الأولى 2016. وما تحمل الرؤية الاستراتيجية الجديدة سياسات لم تكن جديدة في سياسات الولاياتالمتحدة الخارجية ورؤيتها وتقييمها للمهددات الأمنية والتي من بينها عدة دول في عالم تهمين على نظامه العالمي. وتريد الولاياتالمتحدة – كما تشير الاستراتيجية- أن تحتفظ بموقعها كقوة عظمى غير منازعة هو مبدأ ساد بعد سقوط خمصها في الحرب الباردة الاتحاد السوفيتي إيذانا كما عبر مفكروها بنهاية التاريخ كما لدى فرانسيس فوكوياما وصدام الحضارات لدى صموئيل هنتنغتون من أكثر من ثلاث عقود مضت في أكبر احتفال أيديولوجي. ولكن بدأت سياسات ترامب الشعبوية وما يتعلق بالهجرة تتضح أكثر من أي استراتيجية سابقة بما اسماه بانتهاء عصر الهجرة الكبير. *مفهوم الأمن القومي ولأن الأمن مصدر قلق السياسة الأمريكية رغم بعدها الجغرافي الذي جعلها بعيدة عن إي غزو دائما ما كان فهمها للأمن القومي أن يكون بعيدا عن شطآنها. ويقوم مفهوم الأمن القومي على اعتباره حدودا أمنية بالتصور الامريكي الجيوبوليتيكي الذي يقوم خارج حدوده مياهها الدولية هي النظرة التي تجاوزت مفهوم الأمن الدفاعي في تأمين الحدود. عبر هذا المنظور بُرّرت حروبها الوقائية وفق تصنيف للدولة التي تشكل محورا للشر أو المارقة. فتعرض هذه الفرضية الاستراتيجية إلى اختبار دقيق ولم تحسم أي نزاع اشتركت فيه في البلدان التي قامت بغزوها إلا بمزيد من الخسائر مع تصاعد فاتورة الحروب. وطال أمد استراتيجية حربها على الإرهاب وأصبحت أمة كما يرى الكاتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان قد وضعت حول نفسها مزيدا من العوازل أكثر من ذي قبل وبذا انفصلت شعوريا – إن لم يجد حسيا- عن عدد من حلفائها وتحولت في ذات السياق من مصدر للأمل إلى بلد يصدر مخاوفه إلى الخارج. يضاف إلى ذلك تعقيداتها الداخلية وتفاقمها كمشكلات الضمان الاجتماعي والصحي والهجرة والحاجة المتزايدة إلى الطاقة وقضايا الأمن الداخلي. فما هذه الاستراتيجية التي توصف بالصلبة والواقعية التي تفسر الارتباط الجوهري بين بين الغايات والوسائل وبالتالي ما هي طبيعة المهددات التي يشير إليها التقرير ويصنفها في الهجوم العسكري والمخدرات والإتجار في البشر وغيرها ممات تتصوره من تهديد مباشر لحياة الأمريكيين. فما ترغب فيه إن ما تريد الولاياتالمتحدة بحسب خطة الاستراتيجية يدخل في الخطابة البلاغية السياسية أكثر من الوقائع الاستراتيجية فما تريده داخليا من تقوية الاقتصاد والاستغلال الأقصى للموارد لتأمين الأمة الأمريكية. والمفارقة أن استراتيجية ترامب تعدد وصفها بين سياسة خارجية براغماتية مرنة دون أن تكون براغماتي وواقعية دون أن تكون واقعية وما تريده من العالم وفق ترسيم سياساتها الخارجية ومحيط تركيزها في النصف الغربي للكرة الأرضية استمرارا لمبدأ مونرو 1823 كما تقارنه الاستراتيجية. إذا كانت الاستراتيجية في جانبها الاقتصادي تركز على استعادة امريكا لوقتها في كل المجالات إلا أن الصين لا تزال تشكل منافسا اقتصاديا صاعدا بقوة مع الفارق في موازين القوة. فقد ورد ذكرها في الخطة الاستراتيجية أكثر من عشرين مرة فيما يتعلق بالتنافس الاقتصادي والاضرار الذي سببته للولايات المتحدة بفتح أسواقها والتي تعتبرها من الأخطاء التي شجعت الاقتصاد الأمريكي للاستثمار في الصين. *الحرب الوقائية الامريكية وبينما ترغب استراتيجيتها في مساعدة اوروبا على استعادة هويتها الحضارية تحاول في الوقت ذاته منع هيمنة جماعات التي تصفها بالمعادية من الوصول إلى السلطة في الشرق الأوسط ضمانا لتدفقات النفط. ولا يتخلف التقرير عما سبقه من رؤية كونية ذات صبغة ايدولوجيا غير معرفة دفع بها المحافظون الجدد في تسعينيات القرن الماضي ما عرف بمشروع القرن الأمريكي الجديد. مما حدا بالمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه الهيمنة أم البقاء – السعي الأمريكي إلى السيطرة على العالم بأن الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية تنطوي على تهدِّيد وستجعل العالم منقسما وأكثر خطرا وتكون امريكا نفسها أقل امناً وهي النظرة التي يشاركها نخبة من ساسة السياسة الخارجية. فمثلما تعاطف العالم معها عقيب هجمات 11/9 أنفتح الباب أيضا واسعاً لموجات من الكراهية فحروبها التي شنت بدعاوى الضربات الوقائية وليس الاستباقية أظهرتها قوة تعمل خارج مظلة القانون الدولي لأن الحرب الوقائية تقع ضمن دائرة جرائم الحرب. والشاهد أن صاحب ظهور القوة الأمريكية في العقد الأخير للقرن العشرين مقولات احتفائية تنظر لقوتها الصاعدة من خلال اصطلاحات جديدة ولكنها لم ترقِ إلى مستوى الفرضيات قابلة التطبيق فظلت حبيسة التصور الأيديولوجي لسطوة القوة الخشنة. فتصور مشروع القرن الأمريكي يعتبر أن امريكا قادت الغرب إلى انتصار ساحق في فترة الحرب الباردة وبقي عليها مواجهة أعداءها في الخارج وهم ما لا تتماثل معاييرها السياسية مع مبادئها في السياسة والديمقراطية. هذه الرؤى التعميمية أوغلت بعيداً إلى وصف – المرحلة الأمريكية – بنهاية التاريخ ما يعني انتصار النموذج الغربي الليبرالي في السياسة واقتصاد السوق المفتوح. يجدر القول إن الانتصار النموذج الامريكي ليس على مستوى القيم التي تدعيها أو تبشر بها. فهو ترجمة حقيقية للتفوق العسكري واقتصاد هائل وتقدم تكنولوجي يحكم سيطرته على مجالات الفضاء وتقنية المعلومات. *القوة الناعمة إلى جانب ذلك تستخدم هذه المقومات التي لم تتوافر من قبل لدولة ما في نشر ثقافتها الشعبية عبر سياق ثقافي عرفه البروفيسور جوزف ناي بالقوة الناعمة تبدأ من مشروع مارشال لإعادة إعمار أوربا التي خرجت المحطمة من الحرب العالمية الثانية انتهاء إلى الثقافة بشقيها ثقافة عالية بمستوى الجامعات والتعليم العالي وأخرى شعبية يسعى العالم لتبني قيمها. ولكن كما يذهب ناي أيضا أن هناك وجهاً آخرا للقوة وهو القوة الصلبة تمثلها القوة العسكرية البارزة وكلاهما ترتبطان ببعضهما البعض من حيث تأثيرهما على الآخرين. بعبارة واحدة سياسات التهديد. وبهذا تكون قوتها الناعمة لا تعبر عن أنساق فكرية تقبل المشاركة والحوار الإنساني بل يجب أن تفهم وفق سياق منظومتها العسكرية. وكما هو متوقع فإن خطة الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بأهميتها للسياسات الأمريكية الخارجية وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي وموقفها التقليدي المؤيد لإسرائيل فإن الخطة تشيد بإنجازات ترامب في المنطقة من إضعاف قوة إيران التي يصفها بالمزعزع الرئيس في المنطقة النووية بالضربة الأمريكية وتركيع حركة حماس في حرب السابع من أكتوبر. ويبدو أن مسألة الطاقة تأخذ حيزا واسعا من خطط الاستراتيجية وأهميتها للاقتصاد الأمريكية إلا أن ذلك يتم من خلال العلاقات بين إسرائيل وجيرانها وفق المنظور الأمريكي. إن خطة الرئيس دونالد ترامب الاستراتيجية للأمن القومي تعبر عن رؤية تدفعها أوهام السياسة باستعادة الولاياتالمتحدة لمكانتها والتعبير نفسه يشير في حد ذاته إلى ثمة ما هو مفقود أو متوهم. فإذا كانت لا تزال الدولة الأكبر اقتصادا وقوة عسكرية ضاربة وتقدم تكنولوجي رائد في ظل منافسين تخشى من منافستهم إلا أن ذلك يدفع بالكثير من الأسئلة التي تثار حول قدرة الولاياتالمتحدة في الصمود في موقعها المتفوق . فالدور الامبراطوري الذي تحاول الولايات لعبه يصعد ثم ينحدر تاريخيا بفعل التوسع أو الإرهاق الذي تفرضه مسؤولياتها على الصعيد العالمي وعلى ما فصلت فيه خطة استراتيجية الأمن القومي إلا أنها تبدو أعلانا ضد الهجرة في بلد تكون في الاساس من المهاجرين أكثر منه خطط سياسية داخلية وخارجية تعيد رسم سياساتها المهيمنة عالميا. وتعيد الاستراتيجية الخطاب الأمريكي حول الروابط التاريخية بينها وأوروبا ومصير مستقبل حلف الناتو الذي ستصبح عضويتها من دول خارج القارة الأوروبية. المشكلة أن الاستراتيجية حاولت تحويل الأرقام إلى عقيدة متصورة عن الولاياتالمتحدة ودورها في العالم بما يتجاوز واقعية السياسة والاقتصاد تشكل هوس الإدارة الأمريكية حول رؤيتها للعالم بقيادة رئيس عادة ما يتجاوز حدود المعقول. ثم إن المدى الزمني المتبقي لإدارة ترامب قد لا يؤهلها لتطبيق ما ورد في خطة الاستراتيجية طويلة المدى كما تبدو في تغطيتها لقارات العالم ولو أن إنها تعبر جوهريا عن السياسات الأمريكية التقليدية الموروثة. ولكن الأخطر أن يتم التنفيذ على طريقة الإدارة الحالية بتصرفاتها الدراماتيكية التي تتخطي المؤسسية في شخص رئيسها. فالخلط بين أوهام القوة أو تلك التي تتصور الدول بحسب موقعها في النظام العالمي والحضاري يمنحها تميزا قد يكون مدخلا إلى سياسات تقويض وجودها بسبب تلك السياسات نفسها.