اتجهت نهار أمس لاستخراج وثيقة من إحدى البلديات، فشهدت منظرا عجيبا، او قلّ نظيره في بلادنا وخصوصا في مؤسساتنا العمومية وبلدياتنا. كان العامل على تلك الوثائق يتماطل في استخراجها وتقديمها للمواطنين، بل كان يترك عمله أحيانا ويتجه للحديث مع هذا الزبون او الصديق او الزميل، أو يقرأ الجريدة، بل يفعل كل ما من شأنه أن يعطل العمل، ويجعل المواطن يستشيط حنقا وغضبا، والأدهى من ذلك أن ذلك العامل معروف برداءته، وليست السنة الأولى ولا المرّة الأولى التي يفعل فيها ذلك. ولكن ما لم يكن يعلمه ذلك العامل أن رئيس البلدية كان يراقبه منذ مدة، وعندما طفح الكيل، ولو أن الكيل طفح منذ سنوات عشر، تقدم ذلك الرئيس من ذلك العامل، فم يجد العامل أمامه إلاّ الاعتذار فاعتذر، وقال: "اعتذر عن رداءة عملي هذا يا سيدي الرئيس". فحيا بعض المواطنين الذين حضروا الموقف في العامل شجاعته حين اعتذر، حتى أن البعض قال انه لو اعتذر كلّ عامل عن رداءة عمله لصلحت حال الأمة، ولخرجنا من الرداءة إلى الجودة. يقول المثل الشعبي، واسمحوا لي أن أستعمله: "السماح عند القاضي". مثل يُستعمل في المعاملات بين الأفراد، بين الأصدقاء والأقارب وأبناء الحي وبين الأزواج او الشركاء او حتى بين الأعداء، فما بالكم بالميدان الاحترافي، عندما يتعلق الأمر بعمل يمس المجتمع ككل، وإذا كان العامل قد بلغ ما بلغه من الرداءة، ولم يعتذر إلاّ بعد أن تفطن الجميع له، وحتى رئيس البلدية الذي لا شك لم يقدم له الملاحظة إلاّ بعد أن سمع بما يفعله ذلك العامل. الاعتذار في مثل هذه الأحوال ليس بشجاعة، ولكن وقاحة، وكان اضعف الإيمان أن يستقيل ذلك العامل، وألاّ يعمل مجددا في بلدية ما دام حيا حياء وخجلا من فعلته، لو كان فعلا نادما ويريد إصلاح ما افسد. والخطأ الذي ارتكبه ذلك العامل ليس رداءة عمله فحسب، بل انه خان الأمانة، أمانه الرئيس والشعب، واكل مالا حراما، إذا انه لم يكن يستحق الأجرة التي كان يتقاضاها طوال سنوات، وعطل مصالحا وأهان الناس والمهنة، وأكثر من ذلك كله وقاحته التي قابل بها البشر واعتذر من رئيسه بعد أن كشفه متلبسا. الاعتذار يكون شجاعة عندما يكون مرفوقا بالندم، وعندما يتقدم به الشخص بمحض إرادته، وليس عندما يكون مجبرا، او يخشى أن يفقد عمله. في البلدان المتطورة، ولو أنني اكره المقارنات خاصّة إن كان الفارق عميقا وجوهريا، تعتبر تلك التصرفات فضائح ولا يكفي طرد العامل بل لا بد من معاقبته على ما فعل، لا أن نعتبره ورئيسه أبطالا في حسن التسيير. بعض العقلاء من المواطنين الذين حضروا ذلك الموقف قالوا أن الأمر لا يعدو أن يكون تمثيلية، المستفيد منها الرئيس الذي سيظهر للشعب أنه يراقب عمّاله، وأنّ له القدرة على توجيه الملاحظات لهم، وربما اتفق مع العامل الذي أراد بدوره أن يحسن صورته التي شوهها بنفسه طوال سنين.