يقول ابن عطاء الله السكندري:”إنما جعل الدار الآخرة لجزاء عباده المؤمنين، لأن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم، ولأنه أجلّ أقدارهم عن أن يجازيهم في دار لا بقاء لها” المراد بالجزاء هنا ما قد وعد الله به عباده الصالحين من النعيم المقيم في جنان خُلده،مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،وقد أوجز البيان الإلهي ذلك بقوله {لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد}(ق). فهذا الجزاء الذي وصف الله بعضاً يسيراً منه في محكم تبيانه، شاء سبحانه وتعالى أن يؤجل ميقاته إلى يوم القيامة، وأعلن عن مشيئته هذه بقوله: {كل نفس ذائقةُ الموتِ وإنما توّفَّون أُجوركُم يومَ القيامَة”}. وإنك لتلاحظ أن البيان الإلهي عبّر عن هذه المكرمة التي أعدّها الله لعباده الصالحين وادّخرها لهم يوم القيامة ب”الأجر”. لعل الأجر أخص من الجزاء، إذ الجزاء يشمل سائر الأعطيات التي يتفضل الله بها على عباده مقابل استجابتهم لأوامره وانقيادهم لأحكامه. أما الأجر فهو يطلق في الأصل على ما قد يتم الاتفاق عليه بين العامل ورب العمل، من مقابل يدفعه الثاني للأول، مقابل عمله.. وهذا الاطلاق، وإن كان لا يسري على ما ادخره الله لعباده الصالحين يوم القيامة،لأنه التزام من طرف واحد، وهو الله عز وجل، إلا أن البيان الإلهي سماه مع ذلك أجراً على سبيل المشاكلة. وإذا ظهر لك هذا الفرق، تبين لك الفارق الثاني أيضا، وهو أن الله عز وجل ادخر لعباده الصالحين أجور أعمالهم التي ألزم ذاته العلية بها، إلى يوم القيامة،وهو القرار الذي أعلنه عز وجل في محكم بيانه. ويوضح ابن عطاء الله الحكمة منه هنا. أما الجزاء الذي هو أعم من الأجر كما قد علمنا، فإنه يشمل هذا الأجر المؤجل، ويشمل ما وراءه من الأعطيات والمنن التي يكرم بها الصالحين من عباده في دار الدنيا.. وهو ما سيشير إليه ابن عطاء الله في حكمة آتية،إذ يقول:”جل ربنا أن يعامله العبد نقداً،فيجازيه نسيئة” وإذ قد استعمل رحمه الله مادّة الجزاء في هذه الحكمة الآتية،فقد كان من المناسب لما قد ذكرت لك، أن يستعمل هنا كلمة الأًجر، فيقول :”..محلاً لأجر عباده المؤمنين ”حتى لا يتوهم متوهم أن بين الحكمتين تعارضاً. إذن فقد قضى الله عز وجل أن يؤخر الأجر الذي أعده لعباده الصالحين والذي تحدث عنه أو عن طرف يسير منه في كتابه المبين،إلى ما بعد الموت.. فلماذا؟.. وما الحكمة؟.. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”. يذكر ابن عطاء الله لذلك حكمتين اثنين: - أما الحكمة الأولى فهي أن الدار الدنيا تتعارض من حيث ذاتها مع نوع الأجر الذي أعدّه الله لعباده، إذ من أهم خصائصها فناؤها وعدم بقائها، في حين أن من أخص خصائص الأجر الذي قضى به الله لعباده، بقاؤه وعدم فنائه، فكيف يكون الفاني وعاء، أو محلاً للباقي؟ ثم إنَّ هذه الدار الدنيا تتعارض مع الأجر الذي بشر به عباده الصالحين،من حيث إن نظام الحياة الدنيا يتناسق مع شأن التكاليف، ونظام الحياة الآخرة يتناسق مع طبيعة الجزاء.. - وأما الحكمة الثانية فهي أنه عز وجل،لو شاء أن يخلي الدنيا من سائر الشوائب والمنغصات، والمصائب بالنسبة لعباده الصالحين، وأن يملأها بعد ذلك بالمبهجات والمكرمات التي وعدهم بها، ليتمتعوا بها في عاجل حياتهم بدلاً من أن ينتظروها إلى الحياة الآخرة، إذن لكانت مفارقتهم لها بالموت الذي قضى به عليهم مصدراً لآلام كاوية تنسيهم لذائذ تلك المكرمات مهما عظمت.. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)