حسن الأدب مع الله في الطلب. يقول ابن عطاء الله السكندري:”ما الشأن وجود الطلب، إنما الشأن أن ترزق حسن الأدب”. سبق أن ذكرت لك،في مناسبة مرت، الفرق بين الدعاء والطلب.وقلت لك:الدعاء إعلان الافتقار إلى الله، والانصراف بذل العبودية والافتقار إليه وحده، أي فالدعاء عبادة مقصودة لذاتها، وجدت الاستجابة أم لم توجد. أما الطلب فهو أعم من ذلك.. إذ هو إعلان الحاجة إلى المطلوب، لمن يتوقع منه الاستجابة والبذل، سواء كان الطالب ندًّا أي مساوياً في الرتبة لمن يطلب منه، أوكان أعلى أو أقلّ منه شأناً. والمعنى الذي يرمي إليه ابن عطاء من هذه الحكمة، هو أن طالب الشيء،مَعْنِيٌ بالرغبة في قضاء حاجته، وليس له أيّ اهتمام بشيء آخر وراء ذلك، وإذا طرق بها باب من يتأمل عنده الاستجابة وتحقيق المطلوب، فهو إنما يقبل إليه لهذه الغاية، ويتعلق به لهذا الغرض. وآية ذلك أنه إذا نال منه مبتغاه أو يئس من الحصول عليه عن طريقه،تجاوزه معرضا عنه ناسيا له، وصدق المثل القائل:”صاحب الحاجة أرعن لا يروم إلا قضاءها”. وإذا كان طلب الشيء على هذا النحو سائغاً في علاقات الناس بعضهم ببعض، فهو غير سائغ في علاقة العبد بربه عز وجل. إن توجه العبد إلى الله بعرض احتياجاته وطلبها منه على هذا النحو، إذ فيه من سوء الأدب ما يمكن أن يزج صاحبه في أحطّ دركات البعد عند الله عز وجل. لذا فإن المطلوب من العبد - وقد عرف عبوديته ومملوكيته لله عز وجل - أن يقيد نفسه وسلوكه بضوابط الأدب مع الله، من حيث إنه عبد ذليل لا يشرد عن ساحة عبوديته له، مستجيباً في ذلك لمطالبه وأوامره قبل أن يعرض هو مطالبه. فإذا اتجه العبد يصغي إلى متطلبات الله منه، عازماً على تنفيذها والانقياد لها، فسوف يجد بين هذه المتطلبات التي أُمِرَ بها على وجه الجزم والإلزام، ضرورة الإقبال إليه بالدعاء.. يعرض من خلاله افتقاره المطلق إليه، متحققا بأوصاف مسكنته وذلّه وعجزه وعبوديته، معلقا آماله بأوصاف كرمه وفضله وغناه وقوته، وذلك في مثل قول الله تعالى:{وقال ربُّكُمُ ادعوني أسْتَجب لكُم إنَّ الذينَ يَسْتَكْبِرونَ عنْ عبادتِي سَيَدخلون جهنَّمَ داخِرينَ} (غافر)، وقوله:{وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريبٌ أجيب دعْوةَ الدّاعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرشُدُونَ} (البقرة). فإذا أقبل العبدينجز الأوامر المتجهة إليه من الله عز وجل، على النحو الذي ذكرت لك، ومنها الإقبال إليه بالتضرع والدعاء، فإن دعاءه عندئذ استجابة منه لأمر الله وطلبه الصادر إليه، وفرق كبير بين السؤال الذي تعرضه بطلب منك، والسؤال الذي تعرضه استجابة لطلب صادر إليك منه. إنك في الحالة الأولى تستخدم المسؤول في تحقيق طلبك،وفي ذلك منتهى الرعونة وسوء الأدب إن أنت أنجزت أمر الله من خلال مسألتك ودعائك له. إن من أبرز مظاهر سوء الأدب مع الله في الحالة الأولى، أنك إن لم تجد الاستجابة التي تنتظرها،تهتاج في رأسك الشكوك في رحمة الله ووعده، وتثور بين جوانحك مشاعر التأفف من أنك لم تصل إلى ما تبتغيه منه. وعندئذ تملّ من الدعاء وتعرض عنه. وإن من أبرز مظاهر حسن الأدب مع الله في الحالة الثانية، أن إقبالك إليه بالتضرع والدعاء سيبقى مستمراً سواء وجدت الاستجابة أم لم تجدها،ويقينك بحكمة الله ورحمته مع حسن ظنك به، يظل راسخاً في كل من قلبك ونفسك، أياً كانت الأحوال التي تواجهك بعد الدعاء. ذلك لأنك إنما تدعوه إشباعاً لمشاعر عبوديتك له، واستجابة لأمره الصادر إليك،لا أداة لتحقيق رغباتك والوصول به إلى مبتغياتك. ومن أهم وأعلى درجات الأدب مع الله، في أمر الدعاء أن تنمحي ضرورات العبد وما يسمى بحالات الاضطرار التي يمرّ بها،في غمار ثقته بالله تعالى، إذ أنه أشد رحمة بك من نفسك..فالربانيون (كسيدنا إبراهيم عليه السلام) لا تفتر ألسنتهم عن الدعاء، ولكنهم لا يلتفتون إلى ما يشغل أفكار أمثالنا من شؤون الدنيا وحظوظ النفس والجسد، وإنما يشغلون أوقاتهم وأفكارهم بما هو أسمى وأجلّ من ذلك، فذلك هو مضمون دعائهم، ومادة آمالهم ورغائبهم. وإذا كنت لا تستطيع أن ترقى إلى هذه الدرجة فليس أقل لمن أن تأتي بالجامع المشترك بأن تقوم بما قد طلبه الله منك، قبل ان تشتغل بعرض متطلباتك على الله التي تأمل ان ينجزها لك، وأن تجعل دعاءك الذي تتجه به إلى الله استجابة لأمر الله لك بذلك، لا استجابة لرغبات نفسك وإلحاح احتياجاتك.. والله ولي التوفيق. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي