ذات يوم في ”كان”، المهرجان المعروف، وقبل عدّة سنوات، وصلت لعرض خاص لفيلم مصري التحق بالمهرجان خارج المسابقة بل خارج العروض الرسمية كشأن مئات الأفلام الأخرى التي تتوسم الولادة من رحم أهم مهرجانات الدنيا. جلست من دون قصد لجانب المؤلّف الموسيقي الذي وضع للفيلم ألحانه. وبعد التأخير الذي لا بد منه (للأسف) بوشر عرض الفيلم وانطلقت مشاهده وموسيقاه. للأمانة كانت الموسيقى جيدة. بل كانت أحد أهم وأفضل ما فيه. لكني لاحظت أن الجالس لجانبي يهز رأسه غير راض. وفي مرّة واحدة على الأقل، وضع يده فوق وجهه كما لو أراد أن يتحاشى ما يراه ويكتفي بما أنجبته مخيّلته وموهبته. حين انتهى قصدت أن أنظر إليه. لم أره مبتسمًا. وخرج من قبل أن يتاح لي التعرّف فعليًا عليه. أو ربما ترددت في أن أسأله السبب في عدم رضاه عن الفيلم. ما الذي حدث لموسيقاه؟ الغالب، وحسب المشاهدة وحدها، استعملت على الأوجه المألوفة ذاتها: عالية في غير مكانها المناسب متقطّعة بحيث لا تتواصل في انسياب صحيح. الموسيقى المكتوبة للأفلام، والتي عادة ما تسمّى ب”الموسيقى التصويرية” (أي التي تصوّر الأجواء، وهو تعبير مبتسر) من أصعب ما يمكن أن يقع للفيلم وأخطر مناطقه. في الأساس، على المخرج أن يكون سمع أعمال الموسيقيين العاملين وليس سمع عنهم. درس معطياتهم وإنتاجاتهم ومميّزات كل واحد المنفردة من قبل أن يختار (أو أن يختار له المنتج من يريده هو). إذ يضع قائمته القصيرة يدرس العلاقة بين الموسيقى التي تخصص الموسيقار بها على نحو يميّزه وبين النص الذي سيتحوّل إلى فيلم. إذا ما وجد تلك العلاقة، التي هي لا مادية ولا فيزيائية أو ظاهرة بأي حال، قصده وأخبره ما يريده من موسيقاه. هل هذا ما يقع في سينمات عربية؟ أحيانًا وليس دائمًا. لذلك هي تعاني ويزيدها معاناة واقع أن المخرج (وفي كثير من الأحيان الموسيقار نفسه) يعتقد أن الموسيقى عليها أن تكون حاضرة. تزعق إذا لم يكن بد. من الأفضل لها أن تدوّي (كما تحب الأفلام الأميركية أن تفعل). ويزيد المشكلة صعوبة حقيقة أن العمل ما زال، في الكثير من الإنتاجات السينمائية والتلفزيونية العربية على الأخص، مرهونًا بالمشهد وليس بالكل. إذا كان المشهد يقع في الريف، فإن له موسيقاه (ناي غالبًا). إذا كان المشهد تشويقيًا فالموسيقى هادرة وتستخدم آلاتها كما لو كانت مطارق. وفي الحالات العاطفية تهيم الموسيقى فوق العاشقين وكل ذلك لأن المفهوم السائد أن عليها التعبير عما نراه وبطريقة واضحة. وهذا خطأ. الأحرى أن تتجاوز الحاضر الواضح لتثمر عن مفادات وأبعاد جمالية بصرف النظر عن طبيعة المشهد بحد ذاته. الأفلام الغربية ليست أفضل حالاً على نحو دائم. هذا يدل على صعوبة استخدام الموسيقى في الأفلام واصطدامها بأسباب فشل متعددة. لحين ما زال جاريًا، درج البعض على استخدام موسيقى مؤلّفة من دقات البيانو. ليس عزفًا متواصلاً، بل دقّة… دقّة. دقّة ترن ثم تتوقف… ثم تعود من جديد. أتساءل حين سماعها وقبل أن أغلق أذني عما إذا كان المراد أن تساعد المشاهد على البقاء صاحيا. أو أن العازف نقر المفتاح الأول ثم مد يده إلى فنجان الكابتشينو. شرب منه. أعاده إلى مكانه، ثم نقر مفتاحًا آخر.