حج 2025: عودة أول فوج من الحجاج إلى مطار غرداية    مجلس الأمة: المصادقة بالإجماع على نص قانون تسوية الميزانية ل2022    ست جامعات جزائرية في مراتب متقدمة ضمن التصنيف العالمي    قسنطينة: فريق من الباحثين يعاين ضريح ماسينيسا لاقتراح تصنيفه ضمن قائمة التراث العالمي    رئيس مجلس الأمة يشيد بالسياسات المنتهجة من طرف رئيس الجمهورية لبسط دولة الحق والقانون    المتحف الوطني للمجاهد : ندوة تاريخية بمناسبة الذكرى ال69 لاستشهاد البطل أحمد زبانة    وهران: توصيات لحفظ وتثمين الأرشيف المخطوط والمخطوطات    شركة النقل الجوي الداخلي الجديدة ستدخل حيز الخدمة قريبا    إلغاء رحلات للجوية الجزائرية    إيران: عراقجي يؤكد عقد لقاء رفيع المستوى مع نظرائه الأوروبيين بجنيف على خلفية العدوان الصهيوني على بلاده    الحرب تشتد بين إيران وبني صهيون    الشباب يفتك الوصافة    الثوم ب300 دينار للكيلوغرام في عزّ موسمه    عطاف يُحادِث رايزنر    بوغالي يستقبل سفير البحرين    توقيف 50 تاجر مخدّرات خلال أسبوع    الجزائر عاصمة للثقافة الحسانية    انطلاق حملة الحصاد والدرس للموسم الفلاحي الجاري بعدد من ولايات شرق البلاد    نحو وضع خريطة صحية جديدة لإعادة تنظيم شبكات العلاج    مدرسة القيادة والأركان بتامنفوست: تخرج الدفعة ال53 للضباط المتربصين لدروس القيادة والأركان    "مجموعة جنيف" تدعو المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى إرسال بعثة إلى الصحراء الغربية على وجه السرعة    ألعاب القوى (ذوي الهمم)/ الجائزة الكبرى بتونس: الجزائر تختتم مشاركتها بحصيلة 16 ميدالية    مشروع المرجع الوطني للعنونة: إبراز البعد الاقتصادي للعناوين ومخططات التوجيه    أمطار رعدية مرتقبة بولايتي جانت وتمنراست ابتداء من ظهيرة يوم الخميس    مجلس الأمة : المصادقة على نص القانون المتعلق بالوقاية من المخدرات والمؤثرات العقلية    مهرجان "سيرتا للفروسية": مسابقة التقاط الأوتاد، خطوة أولى نحو ترسيخ رياضة جديدة وطنيا وجهويا    المنافسات الإفريقية للأندية: الكونفدرالية الإفريقية تضبط تواريخ منافسات موسم (2025- 2026)    غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 55706 شهداء و130101 مصاب    الوزير الأول, نذير العرباوي, يترأس, اجتماعا للحكومة    فلسطين: استشهاد 10 فلسطينيين بقطاع غزة    حديقة التسلية "حبيباس لاند" إضافة نوعية ل"الباهية"    محكمة بريكة تدين عدة أشخاص بالحبس    ما يرتكبه الكيان الصهيوني جريمة حرب يجب توثيقها    الجزائر ترغب في الانضمام للتحالف الإفريقي للهيدروجين    الجزائر تعتمد استراتيجية سيادية في الأمن السيبراني    دفع 800 مليار تعويضات خلال 5 سنوات    وفاة 3 أشخاص وإصابة 211 آخرين بجروح    توتنهام الإنجليزي وأنتويرب البلجيكي يتنافسان على زرقان    مانشستر يونايتد الإنجليزي يخطّط لضم هشام بوداوي    موهبة تعطي "عديم القيمة" نبضا جديدا    عنابة تحتفي بالطفولة والهوية    بجاية تحتضن ملتقى وطنيا حول المسرح الأمازيغي للهواة    متيجة من عل تسبي العالم    وكالات السياحة والسفر تضبط برامج عطلة الصيف    نادي سطاوالي يجرّد اتحاد الجزائر من اللقب ويحقق الثنائية    "تارزيفت"... تعبير عن حفاوة الاستقبال    فعل الخيرات .. زكريا عليه السلام نموذجا    فتاوى : الهبة لبعض الأولاد دون البعض    وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ    جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة..استشهاد 144 فلسطينيا وإصابة 560 خلال 24 ساعة    التلاحم بين الشعب الفلسطيني و المقاومة الباسلة لا تكسره المؤامرات    تعارف الحضارات محور ملتقى دولي بالجزائر    الخضر يتوّجون    هذه أسباب زيادة الخير والبركة في البيت    تدشين مصنع لإنتاج الأدوية القابلة للحقن    تتويجا للإصلاحات الهيكلية العميقة التي بادرت بها الدولة    إيران تطالب بإدانة الكيان الصهيوني بشكل صريح وواضح    الحماية الاجتماعية مبدأ مكفول قانونا لكل جزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأم: رواية الآتي
نشر في الجزائر نيوز يوم 21 - 02 - 2011

كتب الأديب الروسي ماكسيم غوركي رواية الأم بحدس عجيب، لقد أنجز العمل في سنة 1898 لينشر بعد ست سنين (1904)..
الغريب أن هذا الأثر الفني أرّخ لثورة لم تحدث بعد، ويشهد الساسة والمفكرون والمثقفون والعمال أنه أسهم بطريقته في الثورة البلشفية (1917)، ذلك أن تفاصيل كثيرة في هذا الكتاب تتجاور وحركية المجتمع الرّوسي آنذاك. لقد أثنى عليه لينين وعدّه من الهالات الأدبية العظيمة التي كتبت تأسيسا على مخزون من الوعي المتقدم الذي ساعد العمال والفئات المسحوقة في روسيا.
استغل السياسيون لاحقا هذه الرواية ووظفوها لأغراض لم يفكر فيها الكاتب، وفي عام 1934 صنفت في خانة الواقعية الاشتراكية، المدرسة الجديدة التي ستنتشر في بعض البلدان، وفي البلاد العربية مع بعض الكتاب اليساريين: نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، يوسف القعيد، الطاهر وطار، عبدالحميد بن هدوقة، إضافة إلى أسماء أخرى كثيرة.
ومع أن خصوصية البلاد العربية كانت مختلفة، فقد ظهرت تأثيرات بيّنة بفعل التوجه الأيديولوجي في حدّ ذاته، بصرف النظر عن الأخطاء التي وقع فيها بعض الكتاب الذين نقلوا تمفصلات المدرسة بشكل إملائي ألحق ضررا بالأدب المحلي وإمكاناته وفرادته.
أصبح ماكسيم غوركي منتشرا في الكتابات العربية، في المشرق والمغرب، باللغة العربية والفرنسية، وكانت رواية الأم من القوّة الإقناعية بحيث غدت مرجعنا في الجامعة وفي نقاشاتنا وخرجاتنا التطوعية.
أما ماكسيم غوركي، فلم يكن يعرف هذه ''الواقعية الاشتراكية''، ولا المسائل الفنية والجمالية و''الثورية'' التي تحدث عنها النقاد واستثمرتها الأنظمة لغايات، ما ألحق أذى كبيرا بالكتابات اللاحقة التي وقعت تحت ضغط السلطة ولم تميّز بين الالتزام والإلزام، رغم أنهما لا يلتقيان.
سيتجلى ذلك في سقوط نصوص امتلأت بالشعارات والدعاية الفاسدة لمجموعة من اللوبيات التي خدمت نفسها وحاصرت أعمالا إبداعية أخرى لأنها مختلفة، أو لأنها انطلقت من تموقعات أخرى في نظرتها إلى المحيط الخارجي وإلى المادة السردية، ما أدى إلى توقف بعض الكتّاب عن الكتابة وهجرة الآخرين، ومن هؤلاء سولجنتسين، الكاتب الذي قال عنه أحد رؤساء أوروبا إنه أحسن نموذج قدّمه القرن.
ومع أن البلاد العربية لم تكن منقوصة من مرض أحادية التفكير، فقد وقعت في أحادية قطبية ثانية تتمثل في ''مركسة'' الإبداع بشكل خاطئ، قبل أن يكتشف الكتاب أنهم ابتعدوا عن ذواتهم. لقد كتب ماكسيم غوركي انطلاقا من محيطه ومن مقوّمات مجتمعه وحركيته التي تحتكم إلى منطق عيني.
وإذا كان قد أفلح في قراءة المستقبل، فلأن هناك عوامل كثيرة أهّلته لذلك، ومنها معرفة مختلف البنى، ومعرفة بؤس الشعب وتطلعاته، وهذا أساسي. أمّا ما حدث لاحقا في بعض رواياتنا فهو مجرّد استنساخ لتجربة غيرية لها بطاقتها الوطنية، رغم بعدها الإنساني.
تكمن عبقرية ''الأم'' في رسم تفاصيل دقيقة لأحداث ستقع بعد تسع عشرة سنة من كتابة الرواية، أي أنها مرايا تعكس الماضي والحاضر والمستقبل بقدرة مدهشة واستثنائية في تاريخ الرواية العالمية، دون أن ننفي وجود كتابات في مستواها، وقد تفوقها أحيانا من حيث القدرة على التنبؤ (رواية 1984 لإنجليزي جورج أورويل على سبيل المثال).
كيف استطاع ماكسيم غوركي أن يتنبأ بهذا الحراك ويؤثر في المجتمع والسياسة؟ هناك ثقافته وتجربته وارتباطه بمقوماته وسيرورة الواقع، وهناك قوة المتخيل التي لها زادها المعرفي، وهو رصيد مستمد من قضايا مادية.
لا يبدو البطل بافلوف كائنا خرافيا أو أسطوريا أو انتحاريا أو سحريا، كما الأم تماما، الشيء الوحيد الذي يميزهما عن الانهزاميين والمهمشين والكسالى والعبثيين هو إيمانهما بالغد وبالحركة، بالقدرة على التغيير في أتعس السياقات وأقساها، ولأن الهم جماعي، فقد امتزجا بالطبقة الشغيلة في بطولة جماعية متناغمة آلت إلى تقويض أركان الظلم والتفاوت الطبقي الذي كرسه نظام فرض نواميسه.
اللافت للانتباه أن الرواية أسست على فرضيات مقنعة، دون أي صخب أيديولوجي من ذلك النوع الذي قيد أدبنا في فترات تاريخية حساسة جعلته يتحدث عن مجتمعات الآخرين، وليس عن مجتمعاتنا.
وإذا كان نجاح ''الأم'' مرتبطا أساسا بكيان مخصوص، فلأن الكاتب أدرك مسبقا نفسية شخصياته وعلاقاتها وبؤسها في مرحلة ليست إلا نتيجة حتمية لتراكمات تاريخية مخصوصة كذلك، ومن ثم إمكانية توجيهها وفق مسار سردي محكم لا يتناقض وطبيعتها.
هناك في هذا العمل الروائي المتقن مهارة حقيقية في النسج والعرض وتوزيع الأدوار: كما في الحياة البسيطة التي لا تحتاج إلى زاد من الفلسفة لإدراكها، ولكن نباهة غوركي هي المحيرة، لقد كان مهندسا ذا موهبة فارقة في قراءة الواقع والآتي والفرضي، ولابد أن ذلك مرده معرفة تشكلات المحيط وبناه وجزئياته. وكان ارتباطه بالشعب مهما في اكتساب الجزئيات التي وردت في هذا العمل الأدبي الذي أسهم في الثورة البلشفية وظل مثيرا للجدل، بيد أن التجارب التي حاولت تقليده سقطت في فخ الدعاية وأساءت إلى الأعمال الكلاسيكية الكبيرة التي أضاءت روسيا القيصرية: تولستوي، دوستويفسكي، بوشكين، غوركي، وغيرهم.
المفارقة الرائعة:
بعد سنتين من انتصار الثورة البلشفية احتكرت الأنظمة المتعاقبة سلطة الأدب، حسبما ذهب إليه النقاد وبعض المتمّردين على أدلجة الأدب بفظاظة، خاصة في عهد ستالين وجدانوف، وبدل أن يستثمر الأدب في المتخيل أصبح تابعا للقرارات السياسية وفقد ألقه القديم.
قال جدانوف في المؤتمر الأول للكتاب (1934): ''يجب على الكتاب أن يكونوا مربيي النفوس البشرية''، وكانت هذه الوصية كافية لتدمير جزء من الأدب الحر الذي رغب في الإفلات من الاحتكار المعياري الذي فرضه النظام لسنين، تأسيسا على رؤيته وعلى قناعاته ومساعيه، بغض النظر عن لونها وجوهرها.
هل تنبأ غوركي بما بعد الثورة التي ستعيد إلى البؤساء بعض حقهم في الحياة؟ لم تنشر الرواية إلى هذه الفترة التي ستعقب التحول الأعظم، ربما كتم ذلك ولم يفعل ما فعله نوسترادموس في تنبؤاته المذهلة. هناك كتاب يأتون من المستقبل، بتعبير أدونيس، لكنهم يضمرون حقائق لأسباب مختلفة.
ماذا حدث لاحقا؟ كتب ميخائيل بولجاكوف رواية مثيرة بعنوان: الرواية الممسرحة، وكان بولجاكوف أقل خطأ من غوركي، لم يطبع كتابه الذي وفق مابين الحقيقة والخيال، ما بين الحاضر والمستقبل، لكن المخطوط، بالنظر إلى جديته وهزله، وزع بآلاف النسخ، تم تصويره بطرق سرية وقرأه ملايين الناس بإعجاب شديد، وقد يكون هذا الكتاب من أكثر الكتب مقروئية وإثارة للدهشة: قبل أن يسمح بطبعه بعد أعوا، أي بعد وفاة صاحبه.
نقلت الرواية بسخرية لاذعة الحصار الذي ضرب حول الكلمة وحول حرية التغيير في مجتمع ''الغد الأفضل'' الذي تنبأ به غوركي في كتاب الأم، وكانت الرواية الممسرحية مأسوية في جوهرها وأبعادها، رغم أنها تبدو مسلية في تجلياتها الجملية وحواراتها العابث. هل تأثر بها جورج أورويل في روايته الموسومة 1984؟.
لا يمكن تقديم شواهد عن جنون السلطة، لأن النص يحتاج إلى قراءة، وليس إلى ملخص يختزله في مقاطع لا تنصفه. المؤكد أن السيد ميخائيل قام بتخريب جهاز احتكر الرأي والحقيقة، وأسهم بشكل ما، في إلحاق مضرة بالفنون قاطبة، وبالغد الأفضل الذي سعى إلى تحقيقه البشر التعساء للتخلص من الطبقية المقيتة.
لم تتوقف الرواية عند مظاهر تكميم الأفواه، بل عالجت المسألة اللغوية في حد ذاتها، الألفاظ التي تسمح السلطة باستعمالها والألفاظ التي لا يجوز تداولها بالنظر إلى خطورتها ومساسها بأمن الدولة، الموضوعات المباحة والموضوعات المحظورة، النعوت المهمة والنعوت الخارجة على القانون وطموحات الأمة.
لقد جاءت هذه الرواية مفارقة تماما للكتابات الصنمية التي غدت ذيلا للنظام، كما تنبأت وبشكل دقيق، بموت الكلمة وهيمنة خطاب أحادي ميت لا يقدم شيئا للمجتمع، خطاب يحمل بذور فنائه في قاموسه. لذا اعتبرت هذه الرواية مبشرة بثورة على أدب الدعاية، ومقدمة لغد أفضل آخر، ذلك الذي تحدث عنه مكسيم غوركي في رائعة الأم، وليس الغد الأفضل الذي أنتج النفي والمحتشدات، كما يرى النقاد والمتخصصون والذين خابت آمالهم بعد السطو على ثورة الكادحين، وهكذا ظهرت أصوات أخرى منادية بتغيير آخر: يافتوشنكو، راسبوتين، حمزاتوف، سولجنتسين، وكانت أصواتا ذات صدى عالمي أعادت للأدب قيمته الضائعة... ونحن؟ يا إلهي. هرمنا كثيرا، رغم أننا لم نولد بعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.