منذ البدء، أقول، كم عربية يزخر بها العالم العربي؟! طبعا، هناك الفصحى الكلاسيكية، وهناك الفصحى الحديثة التي فرضت وجودها منذ لحظة ما يسميه المفكرون العرب، بلحظة النهضة العربية، وقد ربطها هؤلاء المفكرون العرب بالمركز الشرقي بشكل خاص·· ولقد ارتبطت هذه العربية بحركة الترجمة، وبظهور المطابع والصحف والمجلات، وارتبطت أسماء من يسمون برواد النهضة بشكل خاص، بنوع المقالة التي اشتهر بها عدد من هؤلاء المثقفين والكتاب والمفكرين مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد والمازني وسلامة موسى، والريحاني وقاسم أمين ومصطفى الرافعي ومحمد الغزالي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم·· وتصارعت هذه العربية الفصحى مع عربيات محلية على صعيد الانتشار والسيطرة وبالتالي حول سلطة التأثير، ومن هنا اتجهت هذه العربيات المحلية إلى مجال غير الكتاب وغير كل ماهو مطبوع لتكون أقرب إلى الرجل العادي، وإلى الحس الشعبي، فاتكأت على أنواع أخرى في مجالات الاتصال والإبداع مثل الأغنية والمسرح والسينما·· ومع تحوّل الميديا إلى سلطة فعلية وذات هيمنة أصبحت العربيات المحلية تحتل مصدر الصدارة خاصة مع انتقال ثقل التأثير إلى ما يمكن وصفه بالمجموعة العربية الجديدة الممثلة في دول الخليج التي سعت إلى تأسيس وجودها من حيث القيادة على أنقاض العالم العربي القديم الممثل في دول الشرق الأوسط ودول المغرب العربي·· فلقد تحوّلت العربيات الخليجية إلى عربيات زاحفة وذلك باعتمادها على تفوقها المادي في مجال الميديا المدعمة تقنيا وماليا من السلط الجديدة الرسمية في الخليج·· إن سياسة الجوائز المشجعة للإبداعات خاصة الشعرية منها، بلسان أهل الخليج، وسياسة التحكم في الإنتاج التلفزيوني عملت على تجريد الفصحى من قوتها وقداستها الجمالية، وهذا ما دفع بدول أخرى، مثل سوريا ولبنان والعراق تراهن هي الأخرى على دعم عربياتها المحلية على حساب الفصحى التي ظلت مرتبطة فقط بالنتاج الأدبي الكلاسيكي، مثل الرواية والقصة والبحث الأكاديمي·· ما الذي يمكن أن نستخلصه من ذلك؟! هل هو مقدمة لإعادة صياغة ما كان يسمى بالعالم العربي وفق موازين القوة الجديدة؟! هل يعني ذلك أن العربية الفصحى التي طالما كانت عنوان وحدة الهوية العربية هي في طريقها إلى الانزواء داخل متحف التاريخ؟! ثم ما جدوى هذه المجالس العليا للغة العربية التي تحوّلت إلى مجرد أقانيم لا روح فيها ولا اجتهاد في ظل الغياب شبه المطلق لاستراتيجيات الانتقال بالعربية الفصحى من زمنها المنهار إلى زمن التحديات الجديدة؟!