يمكن أن تكون هنالك أسباب موضوعية لعدم وجود نظرية شاملة حول الشفوية، أو بالتدقيق حول الأدب الشفوي. فالدراسات الخاصة أي تلك التي تجعل من الإنتاجات الشفوية موضوعا لها (أ . دوندس، ه . جاسون، ر. فينيغان، ج . كالام غريول..) هي وصفية، أو، إراديا، متوقفة على طابع خاص للمعطيات. وهي تنظر إلى المعنى والتعبير عنه بشكل عام. لذلك تطرح الأدب الشفوي كطريقة للتعبير من بين الطرق الأخرى. وهي بهذا مجردة، نوعا ما، من كل ما يصنع خصوصيتها، أي شفويتها، المعتبرة السبب الأول والذي يمكن أن نعثر عليه هو ذو طبيعة تطبيقية. فالأدب الشفوي، وإلى تاريخ قريب، ولأسباب معروفة، تمت دراسته من طرف محللين ذوي ثقافة قديمة وأحيانا ذوي تقليد كتابي قوي. ففي الوقت الذي يتطرق فيه هؤلاء إلى دراسة مجال معقد، يكونون قد استدخلوا أصنافا، وأيضا وبدون شك، شفرة من القيم ظهرت لهم، ليست فقط ذات تفوق مطلق، بل، لأنها، أيضا، تشكل السجن الذي لن يستطيعوا الخروج منه. أنا هنا بصدد كتابة غير سجالية ولا أنوي من ورائها إعطاء تقرير سهل وكثير الاستعمال حول اثنولوجيا هي طليعة (البعض يقول هي مجرد أداة) الهيمنة الكولونيالية. إن اقتراحي هذا ذو طبيعة منهجية، إنه تهيئة ضرورية لكل بحث يتوخى الوصول إلى نتيجة مستساغة. لكن، وكما في مجالات عديدة في العلوم الإنسانية (وقد برهنت على ذلك بيار بورديو)، فإن الشروحات الخاصة بالأدب الشفوي توجد متضامنة مع شروط إنتاجها الاجتماعية، ومعرفة ذلك، قبل أي بحث لاحق حول طبيعة ومعنى أو وظيفة الإنتاجات الشفوية، معناه القيام بتجنب عدد معين من المآزق أو الإنجازات غير المباشرة، والتي تجعل من الأدب الشفوي ذريعة لها أكثر من كونه موضوعا حقيقيا لها. هذه حقيقة، إذ أن الرجال الذين يمارسونه ليس لهم الاستعمار الكتلوي أو شبه الخاص الذي ينزع نحو التحول إلى قاعدة صالحة للعالم كله. وهذا معناه أن الفواعل تعيش أنواعها الشفوية، ولا تبدي أية رغبة (ولا تملك الأدوات المفاهيمية) في التنظير. أما الباحثون ذوو الثقافات القديمة المكتوبة، والتي يواجهها نموذج التعبير المستهجن، فهم يحاولون التأسيس له (للأدب الشفوي) منطقيا، أي بالارتكاز إلى القنوات التي قدستها ممارسة عشرين قرنا، بل واستدخلتها فيهم. فبالنسبة للمجتمعات ذات التقليد الشفوي، فإن الأمر أصبح ضرورة طارئة، فالآخرون هم الذين يحاولون جعل الظاهرة شفافة والتي، دون أن تكون ذات كثافة، يكفي أنها شاذة، وأحيانا غريبة، لكي تُحل بواسطة الأصناف الكلاسيكية. لكن ثمة عائق كبير، يصعب تجاوزه في الظروف العادية للعملية ويرتبط بالميزة نفسها للتعبير الأدبي. فحتى في الوسط الخاص بالشفوية الكاملة حيث اللغة الأدبية ليست هي اللغة المتداولة، فاللغة ليست متميزة لأنها فقط صعبة التناول، بل لأنها تشمل كلمات ليست إشارية، ولا تُخْتَصَرْ إلى معناها الحرفي. وهذا بدون شك سبب من بين الأسباب التي جعلت من النظريات الحديثة - التي جعلت من اللسانيات نموذجا لعلوم إنسانية أخرى كالأنثروبولوجيا - تنظر إلى الأدب الشفوي نظرة اختزالية. يمكننا حسب ما يبدو لي تفسير الظاهرة بقولنا، وبطريقة فيها نوع من المفارقة، أن الأدب يبدأ حينما تكون على الجانب الآخر للكلمات. إنه يرتكز قيمة اللفظة، يكون هنالك تعبير وليس أدبا. فهذا الأخير يبدأ في الوقت الذي يستعلى فيه المعنى المباشر، منعما بجهاز كامل من المفهومات والنغمات المتوافقة والأصداء والقيم الثانوية التي يدركها المتلقون العاديون، حتى ولو كانوا خارج وعيهم. يمكننا تقنيا اكتساب معرفة تامة حول لغة أجنبية، غير أن الاستعمال الأداتي، حتى ولو كان كاملا، لا يتضمن الكثير في ما يخص علاقته بما يشكل أدبية نص ما. ومهما تعمقنا في التحليل، فإنه يظهر دائما منحرفا أو دون الجوهري، لأن الجوهري يرقد في شيء يشبه اللامقول النصي، وفي ما يشبه الفائض، الذي لكونه يتعدى، أحيانا وبشدة، المعنى الحرف. هذه المعطيات الملموسة حددت بشكل ضروري دراسات الأدب الشفوي، غير أن الباحث، ولكثرة ما يعترضه من عوائق، فإنه لا يستعمل سوى الأدوات التي يملكها، فيرسم الأهداف الممكن ملامستها، ولا يدرس، إذن، الأدب الشفوي لذاته، لكن كأداة مباشرة أو كوسيلة على الأقل ذات أولوية للوصول إلى معرفة شيء آخر، ظاهرة ممكن حصرها مثل التنظيم الاجتماعي أو شفرة من القيم. يكون هذا العزم قد وجد شكله لدى الباحثين الأوائل، والذين هم، في الغالب، ضباط أو إداريون، فهؤلاء لم تكن لديهم أية نوايا علمية حتى ولو أن أعمالهم في المغرب العربي مثلا كانت لها، أحيانا، قيمتها. فهم لم يعملوا سوى على اختزال الجماهير بحجة معرفتها من الداخل ثم بعد ذلك التحكم فيها إداريا. تملك الثقافات الشفوية في الحقيقة، وسائل ضمان هذه الوظيفة التمييزية، فهذه الوسائل ليست لها الصرامة والبداهة المضفاة على الكتاب، فهناك منطقة كاملة من المياه المعتكرة يصعب عندها تقرير ميزة (أدبية أو مشتركة) لمقولة ما d'un dit. في المغرب العربي يمكن القول أن أدبية الخطاب مرتبطة بثباته، أما التعبير الذي يظل خارج الاعتيادية فهو البيت الشعري، الثابت الشكل، بينما الخطبة ومهما كانت قيمتها تتحول إلى خطاب متداول، لأنها لم تُنتَج بدقة من جديد، فيما تبقى تعابير أخرى غامضة، كالحكاية، مثلا، والتي تتشابه فيها نسبيا المقامات واللحمة العامة. هناك مقياس آخر للتعريف وهو المتعلق بالتمييز الخاص بالأنواع والمتنازع حوله طويلا. يمس الأمر هنا وضعية الشعر والنثر، وعلى حدود النوعية تتمظهر بجلاء خاصية الفرادة. لكن ما يخص اللغة البربرية - وهي هنا لغتي الأم: فإن هذا التمييز غير موجود، فهناك أسماء للإشارة إلى نماذج خاصة من الشعر في القبائلية وهي أربعة (آكيلي، إيزلي، آسفرو، تاكسيت) (Aquil, Izli, Asefru, Taqsit) فآسفرو مثلا يمكنه التدليل على نوع شعري بشكل عام، ولكن على حساب غموض معين والتباس ممكن دائما. لكن حتى في الحالة المسماة استثنائية نتوصل إلى تعريف للأنواع مع صرامة معينة. ورغم ذلك تبرز إلى الوجود أحكام قيمية، من فرط ما هي معقدة داخل تاريخ وثقافة كل مجتمع، يصعب نسبيا القيام بتحويل بسيط: هناك أبيات تحرك الجماهير البربرية وقد تبكيها، لكنها لن تؤثر بالمقابل في جمهور أوروبي تترجم له. وقد ترجمت، شخصيا، نصوصا كلاسيكية من الأدب الفرنسي إلى البربرية لم يكن لها كبير تأثير مسمعي. فهذه الاستحالة التواصلية النسبية لها مفعولها على التحليل والذي يجعلنا نأخذها بعين الاعتبار. هناك مجال ممتاز يسمح لنا بدراسة هذه الحالة، إنها وظيفة الشعر. ويمكننا الاعتماد على ملاحظة مباشرة حين تنظر إلى المجتمعات ذات التقليد الخطي، إذ نعثر على وسيلة عادية للتعبير وهي النثر تحت أشكاله المتعددة بما فيها النثر الشعري. هناك الانبهار الخاص للحساسية، اللذة الجمالية أو الطابع الأكثر فردية للتعبير والعاطفة الشعرية المرفوق بالإبداع، (حروفي في هذه الحالة، لكنه قد يكون تشكيليا أو موسيقيا...)، إبداع له ميزة خاصة (سلبية، لكنها هنا ملائمة) وتتمثل في كونه شيئا آخر غير نسخ الواقع بالكلمات. فطبيعة الشعر هي أن لا يكون فقط إشاريا. هذه الوظيفة الأخيرة موجودة في الثقافات الخطية وتمس النثر. ولإعطاء مثال على ذلك هناك النص الرياضي. فهذا الأخير حين يكون منجزا يكون أكثر شفافية ويتم نسيانه من خلف دلالته. غير أن العكس موجود في الشعر، فالشكل له قيمته في ذاته. لكن المجتمعات ذات التقليد الشفوي لا تملك النثر، والمقصود النثر المكتوب، ففي حين تريد، أو تشعر بضرورة، المحافظة على ذكرى أحداث رئيسية، تواجهها ليونة ملازمة لكل شفوية. فهي، في حالة كهذه، ملزمة بالعثور على أدوات للمحافظة مستقرة نسبيا. ومن هذه الزاوية يكون ثمة في الوقت نفسه، وبالتزامن مع هذا الخسوف، تمظهر للتعبير الجديد، متأقلم بروعة مع الوضعية الشاذة التي خلقها الغزو الأجنبي. والعبقريان اللذان سيجسدان هذا التحول الجوهري في الخطاب، سيتطرقان إلى ميدانين مختلفين: ميدان الحقائق الأخيرة والمعنى نفسه الذي ينبغي إعطاؤه للعالم وللوجود، هذا ما مارسه الشيخ محند. أما ميدان المواقف الوجودية فقد كان من اختصاص سي محند. الأول قال الله والمطلق والثاني الحياة ومرارتها. يمكننا وضع الظاهرة في باب المعجزة، أي وبالمفهوم العلمي في الصدفة غير الملائمة. في الواقع لا شيء يستحق التفصيل بسبب عدم انوجاده. وسي محند والشيخ محند استطاعا إضفاء طابعهما الخاص من العبقرية على الحدث، ولم يبتكراه مما هو عدمي. ففي وجودهما نفسه ومثلما ينقله التقليد، كان الاثنان متشابكين في صميم حياة الشعب الجزائري كلها. تقليد حتى منذ آلاف السنين من الشفوية، منحهما وسائل تحول ثوري. نص:مولود معمري