سيما الحق في تقرير المصير..بوغالي يؤكد أهمية ترسيخ الوعي بحقوق الشعوب في أذهان الناشئة    تبث على قناة "البلاد تيفي" والقناة الإلكترونية "دزاير توب"    مشاركون في ندوة علمية بالعاصمة..تأكيد على أهمية التحكم في تقنية الضوء السنكروتروني    الجزائر- زيمبابوي : فرص عديدة للتعاون بين البلدين    متحدث باسم حماس: لا بديل لغزة إلا المسجد الأقصى والتحرير الكامل لفلسطين    لليوم الثاني..اليمن يضرب عمق النقب المحتل مستهدفاً قاعدة "نيفاتيم"    كأس الكونفدرالية: شباب قسنطينة يفوز أمام بركان (1-0) ويغادر المنافسة    اليوم العالمي للسلامة والصحة في العمل: تعزيز الإجراءات الوقائية وترقية الترسانة القانونية    عن مسيرة الفنان محمد زينات : العرض الشرفي للوثائقي زينات.. الجزائر والسعادة    تكريما للفنان عبد الرحمن القبي.. ألمع نجوم الأغنية الشعبية في حفل فني بابن زيدون    حادث انزلاق التربة بوهران: ترحيل 182 عائلة الى سكنات جديدة بمسرغين    طابع عن مقرأة الجزائر    شراكة جزائرية صينية    الذكاء الاصطناعي والتراث موضوع أيام تكوينية    أسبوع للابتكار بجناح الجزائر    قفزة نوعية في قطاع التربية    مذكرة تفاهم جزائرية تركية    مزيان يحثّ على النزاهة والمسؤولية    مولودية وهران تتنفس    بو الزرد: الاقتصاد الوطني يشهد نجاعةً ونشاطاً    رئيس تونس يُقدّر الجزائر    تعزيز الأمن المائي من خلال تحلية مياه البحر وإعادة استعمال المياه المستعملة    حادث انزلاق التربة بوهران: مولوجي تسدي تعليمات للمصالح المحلية لقطاعها لمرافقة التكفل بالمتضررين    ندوة تاريخية بالجزائر العاصمة إحياء للذكرى ال67 لمعركة سوق أهراس الكبرى    رئيس الجمهورية يعزي عائلة ضحايا حادث انزلاق للتربة بوهران    البيض: جثماني المجاهدين سكوم العيد و بالصديق أحمد يواران الثرى    الجمباز الفني/كأس العالم (مرحلة القاهرة): تتويج الجزائرية كايليا نمور بذهبية اختصاصي جهاز مختلف الارتفاعات    الطبعة الرابعة للصالون الدولي "عنابة سياحة" من 8 إلى 10 مايو المقبل    القمة الإفريقية لتكنولوجيات الإعلام والاتصال : تكريم أفضل المنصات الرقمية في الجزائر لعام 2025    مؤسسات صغيرة ومتوسطة : "المالية الجزائرية للمساهمة" تعتزم بيع مساهماتها في البورصة هذه السنة    اسبانيا: تنظيم وقفة تضامنية مع المعتقلين السياسيين الصحراويين بالسجون المغربية بجزر الكناري    جيجل: وصول باخرة محملة بأزيد من 10 آلاف رأس غنم قادمة من رومانيا بميناء جن جن    كرة القدم/البطولة الافريقية للمحليين: مجيد بوقرة يستدعي 26 لاعبا للمواجهة المزدوجة أمام غامبيا    انطلاق أشغال الاجتماعات الدورية للمنسقين الإذاعيين والتلفزيونيين ومهندسي الاتصال العرب بالجزائر العاصمة    فلسطين : عشرات المستوطنين الصهاينة يقتحمون باحات المسجد الأقصى المبارك    تطرقنا إلى السيناريوهات العملية لإنتاج النظائر المشعة محليا    إطلاق جائزة أحسن بحث في القانون الانتخابي الجزائري    بدء عملية الحجز الالكتروني بفنادق مكة المكرمة    عطاف ينوّه بالإرث الإنساني الذي تركه البابا فرنسيس    دينو توبمولر يدافع عن شايبي    منتخب المصارعة بخطى التتويج في البطولة الإفريقية    الجزائر أمام فرصة صناعة قصة نجاح طاقوية    3 بواخر محملة بالخرفان المستوردة    ملتقى دولي حول مجازر8 ماي 1945    10 ملايير لتهيئة الطريق الرئيسي بديدوش مراد بولاية قسنطينة    ابنة الأسير عبد الله البرغوتي تكشف تفاصيل مروعة    انطلاق الحجز الإلكتروني لغرف فنادق مكة المكرمة    جاهزية تامة لتنظيم موسم حج 2025    عدسة توّثق جمال تراث جانت بشقيه المادي وغير المادي    صيدال يوقع مذكرة تفاهم مع مجموعة شنقيط فارما    حج 2025 : إطلاق برنامج تكويني لفائدة أعضاء الأفواج التنظيمية للبعثة الجزائرية    الجزائر حاضرة في موعد القاهرة    النخبة الوطنية تراهن على التاج القاري    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البرهان القرآني في وجوب الإيمان بالقدر
نشر في الشروق اليومي يوم 31 - 01 - 2019

الإيمان بالقدر هو جزء من العبودية والخضوع لله تعالى، بل هو جزء حقيقي منه لأن معناه، الإيمان بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون، ونفوذ قدرته في كل شيء. والإيمان بالقدر، الذي جاء به الإسلام هو إيمان بمقتضى الكمال الإلهي الذي تميزت به عقيدة الإسلام، وصححت به أوهام الفلسفات، وانحراف الديانات في شأن الألوهية.
شواهد قرآنية في عظمة الإيمان بالقدر:
وردت في كتاب الله تعالى آيات تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى، وعلى أن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على وفق ما قدرها سبحانه وتعالى .
قال تعالى:" إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر: 49) قدر الله كل شيء في الأزل وكتبه سبحانه.
وقوله تعالى:" سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا" (الأحزاب، آية 38) . أي قضاء مقضيا، وحكماً مبتوتاً وهو كظل ظليل، وليل أليل، وروض أريض في قصد التأكيد.
وقوله تعالى:" فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى"(طه: 40) ، أي أنه جاء موافقاً لقدر الله تعالى وإرادته على غير ميعاد .
وقوله تعالى:"فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" (المرسلات: 21 23) . أي جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم، مؤجلاً إلى قدر معلوم قد علمه الله سبحانه وتعالى وحكم به، فقدرنا على ذلك تقديراً فنعم القادرون نحن، أو: فقدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن على قراءتين، والقراءة الثانية "قدَّرنا" بالتشديد توافق قوله تعالى:" مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ" (عبس: 19) .
وقال تعالى:" وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان: 2) : أي كل شيءٍ مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيءٍ تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره. وقال تعالى:" وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ" (الرعد: 8) أي: بأجل، كحفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلاً معلوماً .
وقال تعالى:" وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّبِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ" (الحجر: 21) . يخبر تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيءٍ سهل عليه يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف، " وَمَانُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ" كما يشاء وكما يريد ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة. وقال تعالى:" نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" (الواقعة: 60) أي: صرفناه بينكم "وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" أي: وما نحن بعاجزين. وقال تعالى:" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ" (فصلت: 10) .
وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله قدر كل شيء.
قصص قرآنية في وجوب الإيمان بالقدر:
كان جميعُ الأنبياء والرسل ومن تبعهم معتقدين بعقيدة التوحيد الخالصة الصحيحة، كما أوحى إليهم ربهم تبارك وتعالى، والإيمان بصفات الله تعالى، ومنها، العلم والقدرة والإرادة والخلق كلها داخلة في التوحيد الذي هو أساس دين الإسلام، وتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء وغيرهم، وبين قولهم بالقدر، وبأن ما شاء الله كان، وما لم يشأن لا يكون.
في قصة نوح عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: "قَالُواْ يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَاتَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِنشَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلاَيَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (هود : 32 34) . فهم قالوا لنوح عليه السلام مستعجلين: يا نوح قد جادلتنا أي: حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك، فآتنا بما تعدنا من العذاب، فأجابهم نوح مبيناً أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء، ثم بين نوح أيضاً أن نصحه لا ينفع إذا كان الله يريد أغواءهم، فإرادة الله غالبة، ومشيئته نافذة .
وفي قصة إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما أراد ذبحه بأمر الله، يقول: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَاتُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات : 102) . وقال تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي: بلغ أن ينصرف معه ويعينه، وفي هذا يكون في الغالب أحب ما يكون لوالديه، فرأى أبوه في المنام أن الله يأمره بذبحه، ورؤيا الأنبياء وحي، فقال الابن مستسلماً: "يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"، فأخبر أنه موطِّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله. وهذا هو الشاهد
وفي قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (يوسف : 100) . إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء أي: إذا أراد أمراً قيض له أسباباً ويسره وقدره، إنه هو العليم بمصالح عباده،الْحَكِيمُ: في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده، فيوسف عليه السلام كان مؤمناً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما هو بقضاء الله وقدره.
وموسى عليه الصلاة والسلام، ذكر الله عنه إيمانه بأن الهداية والإضلال بيد الله، وهما تحت مشيئته، فقال تعالى في معرض قصته: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ" (الأعراف : 155) ، فقوله: "لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ": أي لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا منقبل هذا الوقت، قال موسى اعترافاً بالذنب وتلهفاً على ما فرط من قومه، أو المعنى: لو شئت أهلكتهم وإياي من قبل خروجنا حتى يعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهمونني، وهذا على أن "لَوْ" للتمني. ثم قال: "إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء": أي ما هو إلا اختبارك وإمتحانك تضل بهما من تشاء وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، فأنت وحدك لك الملك ولك الخلق والأمر، فقول موسى هذا يدل على تصديقه وإيمانه بالقدر.
وفي قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تعالى عن الشيخ: " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ" (القص : 27) ، والشاهد قوله: "سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ" أي: حسن الصحبة والوفاء، أو الصلاح العام ويدخل فيه صلاح المعاملة من باب أولى، وقيد ذلك بمشئة الله تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته.
ويقول تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام والخضر بعد أن بين له أنه لا يستطيع الصبر معه، فأجابه موسى كما قال الله: "قَالَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَاأَعْصِي لَكَ أَمْرًا" (الكهف : 69).
سأصبر بمشيئة الله ولكن هل الاستثناء شامل قوله: "وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" أولاً؟ قولان للمفسرين والأرجح شموله لهما، قال في تفسير الجلالين "قَالَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" أي: وغير عاصٍ "لَكَ أَمْرًا" تأمرني به، وقيد بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين . فتعليق الأمر بمشيئة الله تعالى دليل على إيمان موسى بأن أي شئ لا يكون إلا إذا أراده الله وشاءه، وقصة موسى والخضر كلها في باب القدر، وقد وردت بتمامها في صحيح البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما".
وبعد أن خسف الله بقارون وداره يقول تعالى عن قومه: "وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" (القصص : 82) . فقوله "يَبْسُطُ الرِّزْقَ" لبعض عباده ويُضيّقه على بعضهم فله الأمر، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
ويقول تعالى عن زكريا ومريم:" فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران، آية: 37) . فقوله:" إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" : الراجح أنه من كلام مريم، وهو يفيد التقرير بأن الله قد يرزق عباده بغير حساب، وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه .
وفي قصة الرجل صاحب الجنتين، يقول تعالى عن صاحبه أنه قال له وهو يحاوره" وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَاشَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا" (الكهف: 39) أي: هلا قلت عندما دخلتها:" مَاشَاءا للَّهُ"، أي الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان فترد أمر جنتك من الحسن والنضارة لخالقه سبحانه، ولا تفتخر به لأنه ليس من عملك وصنعك " لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" أي: وهلا قلت: "لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، معترفاً بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها، وإن شاء أفناها، وأنك عاجز عنها، وعن غيرها لولا معونة الله .
ليس الإله في الإسلام إلهاً معزولاً عما يجري في الكون لا يعلمه ولا يتدخل فيه بتدبير ولا تصريف ك"إله أرسطو" الذي لا يعرف إلا ذاته، ولا يعلم عن هذا الكون شيئاً، ولا يدبر فيه أمراً، أو "إله أفلوطين" الذي لا يعلم ذاته نفسها. وليس كإله المجوس، الذي له نصف الكون يدبره ويتصرف فيه، وهو ما يتعلق بالخير والنور، أما النصف الآخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة، فذلك من شأن إله آخر، فهما إلهان إذن: أحدهما إله الخير والنور، والآخر إله الشر والظلمة والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية.
وليس هو كآلهة اليونان، التي تخبط في تصرفاتها خبط عشواء والتي تعيش في حرب مع البشر، حتى إن رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئاً بهم، متحدياً لهم، يطاردهم ويتجنى عليهم، ولهذا كثر الحديث في أدبهم عن قسوة القدر، وعن القدر الأعمى، والقدر الغاشم ونحو ذلك.
وليس كإله بني إسرائيل، الذي تصوره توراتهم المحرفة، وكتبهم واساطيرهم، غيوراً منتقماً مدمراً، متعصباً لشعب إسرائيل دون العالمين، خائفاً من الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، فيصبح كواحد من الآلهة، نادماً على ما يفعله في بعض الأحيان عاجزاً عن مقاومة الإنسان، حتى إن إسرائيل ليصارعه فيصرعه .
ليس هذا الذي تتصوره أو تصوره الديانات والفلسفات هو إله الإسلام، إنما الإله في الإسلام هو مالك الملك، وصاحب الخلق والأمر، رب العالمين، هو خالق كل شيء عن قبضة قهره، ولا حي أو جماد عن دائرة سلطانه، يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو مع هذا بر كريم، عدل رحيم، عليم حكيم، لا يظلم أحداً، ولا يأخذ مخلوقاً بذنب غيره، ولا يبخسه أجر سعيه، فلا يخاف أحد عنده ظلماً ولا هضماً، والظلم: أن يعاقبه بما لم يفعل والهضم: أن يضيع أجر ما قد عمل، والله سبحانه لا يعاقب بغير سيئة ولا يضيع أجر حسنة، بل يضاعفها كما قال سبحانه:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرً عَظِيمًا" (النساء: 40).
هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر فتراهم يقولون: القدر الأعمى، والقدر الأحمق، والقدر الغاشم، وعبث الأقدار، وسخرية القدر ونحوها، وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون، إنما هو إيمان بإحاطة علم الله وعموم مشيئته وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل ما يحدث في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تصميم سابق، وتدبير قدير، وتقدير عزيز عليم.
المراجع:
صديق حسن خان، فتح البيان في مقاصد القرآن،7 / 375.
الطبري، تفسير الطبري، 15 / 62.
علي محمد الصلابي، أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، دار الروضة، إسطنبول، 2017.
محمد حسان، الإيمان بالقضاء والقدر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.