وادي سلي بلدة طيبة، وعبدٌ أكثره شكور، وأرض خصبة، تقع في “أخصب سهول الجزائر” كما يقول الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسن في كتابه “ثلاث سنوات في شمال إفريقيا، (ج1 ص201). تقع بلدة “واد سلي” إلى الغرب ببضعة كيلومترات من مدينة الشلف، التي كانت تسمّى “الأصنام”، التي احتضنت الحركة الإصلاحية، وانتشرت فيها الدعوة الإصلاحية، حتى قال عنها الإمام الإبراهيمي إعجابا بها، وإشادة بأهلها المصلحين: وهذه مدينة الأصنام وقد هجرت عبادة الأصنام وكان من أبرز أبناء المنطقة في الحركة الإصلاحية الشيخ الجيلالي الفارسي، والشيخ محمد المجّاجي رحمهما الله. لقد مررت كثيرا في غدوي إلى الغرب الجزائري ورواحي منه على ظاهرة بلدة “واد سلي”، ولكنني لم أجس خلال ديارها إلى أن قدر الله – عز وجل- لي أن أدخلها في يومي الجمعية والسبت 19-20/4/2019. إن الفضل في زيارتي إلى مدينة “واد سلي” يعود- بعد تقدير العزيز العليم- إلى الإخوة الأفاضل والأبناء البررة في شعبتي “خير جمعية أخرجت للناس”- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- في كل من مدينتي الشلف وواد سلي” فلهم مني جزيل الشكر على الدعوة الكريمة، وعلى النشاط المتميز. كان سبب الدعوة هو المشاركة في بعض النشاطات التي نظمتها شعبة “واد سلي” بمناسبة إحياء “يوم العلم”، الذي اقترن في وطننا بيوم وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس – رضي الله عنه وأرضاه- هذا الإمام الذي سمّاه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي “موقظ الضمائر”، وسماه الجواجلة بحق “روح الجزائر”، (جريدة البصائر في 2 جوان 1939، ص8)، وهل يحيا كائن من دون روح؟ لقد زرت مقر شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة “واد سلي”، وهو عبارة عن منزل في قلب المدينة تبرع به أحد الإخوة ممن ملأ الله- عز وجل- قلوبهم بالخير، ويسّرهم لفعله والدلالة عليه. لقد خصص الإخوة بعض الحجرات لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم أحكام تلاوته.. وقد أخبرت أن التجربة آتت أكلها، ورأينا ذلك في الحفل البهيج الذي أقيم لتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقة “فرسان القرآن”. كما زرت- رفقة أعضاء من شعبتي الشلف وواد سلي، وتحت قيادة الأستاذ قدور قرناش، حيا خارج البلدة لزيارة مسجد، ومعاينة بعض أقسام تحفيظ القرآن الكريم التي هي في طور الإنجاز، وقد تبرّع بذلك أحد الإخوة المغتربين، ويساعده في الإنجاز من علم الله في قلوبهم خيرا فهداهم إليه، ويسّرهم لليسرى، فلكل من ساهم في هذا المشروع الأجر من الله، والشكر من عباده. وبعدما أدينا صلاة المغرب طلب الإخوة مني ومن الدكتور عاشور خضراوي إلقاء كلمتين بمناسبة تدشين هذا المشروع الخيري، وبمناسبة ذكرى “يوم العلم”، وما قام به الإمام ابن باديس من “جهاد بالقرآن”، لإحياء الأمة الجزائرية بالعلم.. وهذا النوع من “الجهاد”- وهو جهاد دائم، مستمر، لا يقدر عليه إلا “أولو العزم” من البشر، الذين آتاهم الله- عز وجل- العلم النافع، والدين السليم، والقلب التقي، والعقل الواعي. وفي يوم السبت 20-4- حضرنا حفل توزيع جوائز “فرسان القرآن” التي فازت بها الطالبات، ولم يفز بها من الطلاب إلا واحد.. وبقدر ما فرحنا لنجاح طالباتنا- وهن سيصبحن عما قريب زوجات صالحات، وأمهات مربيات، بقدر ما تألمنا ل “هجر” الطلاب للقرآن الكريم.. لقد أقيم الحفل في إحدى ثانويات المدينة، وكانت القاعة الكبرى في تلك الثانوية مكتظة إلى درجة أن بعض الإخوة بقوا واقفين.. ومن أجمل ما لفت نظري مشاركة المسؤولين في الدائرة وفي البلدية وفي الأمن في هذا الحفل، وقد شعرت بتقدير الناس لهؤلاء المسؤولين الذين يشاركون المواطنين في مثل هذه النشاطات الدينية.. وبعد انتهاء هذا الحفل أبى أحد الإخوة إلا أن يضيّف بعض الحاضرين خاصة الذين وفدوا من مدن بعيدة.. وعندما كان هذا الأخ الكريم وأبناؤه يقومون على خدمة ضيوفهم تذكرت ما قاله الرحالة الألماني سالف الذكر من “أن الكرم العربي الذي يضرب به المثل أوشك أن يختفي تحت الحكم الفرنسي” (المرجع السابق ج1، ص185)، وذلك لأن الفرنسيين جرّدوا الجزائريين بالقوة من أملاكم، فلم يعودوا يجدون ما يتكرمون به على ضيوفهم. لقد كانت مأدبة هذا الأخ الكريم دالة على أن الكرم العربي، الذي زاده الإسلام جمالا، قد عاد إلى ما كان عليه قبل نكبتنا ب “الداء الفرنسي”، الذي انتبه شبان هذا الحراك المبارك إلى أنه لا يزال “معششا” في عقول بعض المسؤولين الجزائريين وفي نفوسهم، فدعا هؤلاء الشبان إلى اجتثاث هذا “الداء الفرنسي” بالمصل “الباديسي”. فشكرا للإخوة في “واد سلي”، و”لمثل هذا فليعمل العاملون”.