بقلم: سامح المحاريق بقيت الدول التي تعاقبت على حكم إيران وبلاد فارس تعايش حالة من الزهد في عبور مياه الخليج تجاه الجزيرة العربية بل وأهملت سواحلها على مياه الخليج لتتمكن السفن العربية من السيطرة على أجزاء واسعة منها لدرجة سيطرة العرب على جانبي مضيق هرمز لمعظم القرن التاسع عشر والسبب أن الخليج بجانب مشكلات الندرة التي ليس أقلها في المياه بقي يعاني من كثافة سكانية متدنية تجعل الأنشطة التجارية في حدودها الدنيا ويجعله مستبعدًا من أن يكون وعاءً للضريبة أو الخراج لأي حكم أجنبي. الخليجيون وحدهم يعرفون صعوبة العيش في بلادهم ليكلل تمسكهم بهذه الأرض بمكافأة ظهور النفط الذي أدى إلى ظهور الدولة الحديثة والنقلة التي ينظر لها العالم بخليط من الإعجاب والغيرة على السواء ولكن بقيت العقلية الخليجية محكومة بمستويين من التفكير تشكل الأول من مفهوم الندرة وهو ما يشكل منظومة العلاقات الداخلية في الخليج ويتمثل في تقاليد الأجيال المؤسسة ورؤيتها للعالم. والمستوى الثاني ولدته الوفرة ويتمثل في علاقة الخليج مع الآخر بشكل عام. الندرة في الخليج ولدت مشكلة الكثافة السكانية المنخفضة وتواضع الكتلة السكانية في الدول الخليجية مع وجود كتلة مضافة من الأجانب تواجدت لتحقيق غاية المشاركة في العملية التنموية وأصبحت مع الوقت جزءًا من الزخم المطلوب للحفاظ على أداء الاقتصاد الخليجي وبقيت الكتلة السكانية الوطنية والوافدة مصدرًا لقلق أمني في الخليج كانت تتم مداراته بالعلاقة العربية الدافئة والتصور القائم على أن المحيط العربي يشكل العمق اللازم للخليج وهو ما تلقى خلخلة واسعة في الستينيات مع التوسع في وسم الدول الخليجية بالرجعية من قبل الإعلام العربي (التقدمي) في مصر وغيرها من الدول العربية ولكن هذه الخلخلة بقيت مستوعبة خاصةً بعد الموقف الخليجي الذي أعقب هزيمة جوان 1967. استوعبت دول الخليج تقلبات علاقاتها العربية طويلًا وتجاوزت عن تلميحات السادات بخصوص دور مصر في ارتفاع أسعار النفط وتسارع النهضة في الخليج ومقولات صدام حسين عن الدفاع عن الخليج في وجه الثورة الإيرانية وهذه الادعاءات كان يمكن الرد عليها إلا أن طبيعة العلاقة والتوازنات القائمة في ذلك الوقت لم يسمحا بالجدل حول الخليج ولا التراشق المفتوح حتى أتى الغزو العراقي للكويت ليحدث الصدمة الكبرى في الرؤية الخليجية للعلاقة مع العالم العربي. * بداية لتحول فكري عميق في العقلية الخليجية وقفت في صف دول الخليج دول عربية مركزية مثل مصر وسوريا ولكن الأشباح التي استدعاها الغزو كانت سممت الأجواء وكان كافيًا لأي قيادة خليجية لأن تنظر للتجربة الكويتية في الأشهر الصعبة التي فصلت بين الغزو والتحرير ليكون هاجسها الأساسي بتجنب تكرار هذه التجربة وحماية أمن (الديرة) وهو المصطلح الخليجي الذي يدلل على نسخة خاصة مختلفة إلى حد ما عن مفهوم (الوطن) السائد في دول عربية أخرى فالديرة تحمل التزامًا يميل إلى شخصنة وجود الشعب أو المواطنين ويتناسب مع المجتمع العشائري. خرجت دول الخليج من دور الممول الذي قدمته في السبعينيات والثمانينيات لأنه لم يوفر لها الحماية حتى من الدول التي زعمت أنها تمثل درعًا لوجود الخليج واستقراره مثل العراق ورفضت دور صديق البطل للأنظمة العربية لتبحث عن تشكلها الخاص وكانت قطر التي عايشت بعض الأزمات على المستوى الخليجي بحكم موقعها الجغرافي كشبه جزيرة منغلقة على ذاتها تنطلق للبحث عن مقاربة أمنية أكثر شمولًا وتعقيدًا مندفعة في خيارات لم تكن مطروحةً سابقًا ولحقت الإمارات المقاربة القطرية مع رؤية ذات طبيعة استثمارية تفكر في عصر ما بعد النفط لتستفيد من تجربة دبي التي لم تعتمد كثيرًا على الموارد النفطية في بناء تواجدها وتتابعت التحولات الخليجية لتصل إلى السعودية التي بدأت تفرض نفسها كقوة مركزية في المنطقة مع التطلع إلى البحر الأحمر لتصبح في وسط النسخة المعاصرة من (رحلة الشتاء والصيف) على مستوى اللوجستيات العالمية. *الفكر العربي التقليدي الفكر العربي التقليدي لم يتقبل المقاربات الخليجية المتنوعة والأجوبة المختلفة والمتباينة للأسئلة الوجودية المرتبطة بمواصفات الكتلة السكانية بل وبدا بعيدًا بتصوراته وطروحاته عن طبيعة التطلعات الخليجية وكثيرًا ما كان يدينها ضمن أفكاره المسبقة وثنائية (الرجعية/ التقدمية) أو بطرحه أسئلة تتناسب مع مجتمعات أخرى ربما تتشارك في بعض القيم والمبادئ الثقافية والاجتماعية إلا أن أسلوب وجودها (الزراعي/ المديني) وتركيباتها السكانية والطبقية مختلفة بصورة جذرية عن الخليج ومع ذلك بقيت الأمور تمضي في مساراتها التي بدت واضحة وثابتة وخيارات خليجية معقدة لأنها تبحث عن حالة توازن في منطقة معبأة بالأيديولوجيا وتصوراتها ومنطق (الأبيض/ الأسود) والصراعات الصفرية التي يمكن أن هوامش سكانية أو طبيعية أنها تتوفر في دول أخرى ولكن ليس في الديرة الخليجية. هل يمكن أن تعتبر حرب الإثني عشر يومًا بين إسرائيل وإيران والتي انتهت بتفاهمات لم تكشف بالكامل مع الأمريكيين بداية لتحول فكري عميق في العقلية الخليجية يماثل ما حدث في الثاني من اوت 1990؟ وما هو الاتجاه الذي سيتخذه هذا التحول؟ هل سيمثل ارتدادًا لفكرة المجموعة العربية على أساس طبيعة العلاقات التي تشكلت بعد سنوات طويلة من الندية التي حققتها الدول الخليجية بل وحديث عن انتقال مراكز الثقل والتأثير من الدول التقليدية إلى الخليج أم أن ذلك سيكرر الحالة نفسها التي بقيت قائمة وصولًا إلى لحظة الانكشاف مع غزو الكويت؟ والتي كانت تبدأ مع بترول العرب لكل العرب مع أن قمحهم لم يكن لهم جميعًا في أزمنة سابقة ولم تكن تنتهي بالتعريض بحجم دول الصغير ونكات سمجة من قبيل أن سكانها يمكن أن يستوعبهم ملعب كرة قدم أو باصا نقل! تمتلك دول الخليج القدرة على المزيد من مراقصة الذئاب والتنمر الإقليمي ولكنها ليست قدرة مفتوحة ومن غير نهاية لأنها وبجانب التكلفة الكبيرة مرتبطة بالأمريكيين وقدرتهم على ضبط المشهد في اللحظات الحرجة ووجود المصالح المشتركة التي تعتمد بصورة أساسية على وضع الخليج في معادلة الطاقة على مستوى العالم والثروات الخليجية المتواجدة في الأسواق المالية والاستثمارية وجميعها أمور يمكن أن تضطرب مع الوقت ولكن أولوية الديرة والمحافظة عليها في العقلية الخليجية ستظل قائمة وهذا المفهوم المرتبط بالواقع السكاني في جذوره البعيدة وتجلياته الراهنة يبدو غائبًا عن محاولات فهم الخليج ومحاورته بالصورة اللائقة وبالتالي ستبقى دول الخليج في محاولاتها المستمرة من أجل المحافظة على مصالحها بالصورة التي تراها مناسبة أو وجود مقاربة عربية مناسبة تليق باستعادة الوجود العربي الإقليمي بعد أن أصبحت جميع الدول العربية في موقف محرج وهي ترى محيطها الحيوي والوجودي مجرد ساحة للتراشق بين قوتين تمارسان التنمر وفي أجندة كل منهما حصةً نفوذ تقدم لشعوبهما على حساب العرب ومصالحهم ومستقبلهم.