لقد خاط العسكر في مصر، وغيرها من الدول العربية، نظاما رهيبا جعل كل شيء تحت السيطرة، وتحت الرقابة.. عين العسكر في كل مكان ترصد كل حركة وتتابع الأحداث.. نظام على أهبة الاستعداد لاحتواء أي طارئ وتسيير أية أزمة أو احتجاج أو محاولة لانفلات الوضع.. عملية البناء هذه تمت على مر السنين والتجارب، وبواسطة وسائل عدة، ووفق استرتيجية بعيدة المدى، حتى أصبحت الدولة بكل مقوماتها (الشعب والسيادة والإقليم) ومقدراتها الاقتصادية ومكوناتها السياسية والقانونية تحت رحمة العسكر.. وعندما يحاول الشعب أن يفلت من قبضتها تكون له بالمرصاد بالقمع والاضطهاد بأجهزة الأمن والبوليس، أو بالظلم والجور عن طريق القضاء .
الفساد وشبكة المصالح العنكبوتية لقد سخَّر "النظام" وسائل الدولة وإمكانياتها لإضعافها وتقوية المؤسسة العسكرية التي لم تعد مجرد جيش يضطلع بشرف الدفاع عن الوطن بل أصبح مؤسسة اقتصادية تجاري.. ووضع شبكة من المخبرين والمنتفعين، ووزع الثروة الوطنية بطريقة غير عادلة ل"صنع" مجموعة من رجال المال والأعمال الموالين للسلطان.. وإرساء آلة قانونية تمثل سيف العسكر المسلط على الجميع والضامن القوي لمواجهة أية تطورات غير محسوبة أو خارجة عن السيطرة.. وكوَّن مجموعة من رجال الدين منحها المال والجاه، لتستأثر بالأزهر الشريف وتجعله أداة توفر للنظام الحماية الشرعية، والقداسة الدينية... وأقام ترسانة إعلامية تتناغم معه كالسنفونية كلما استدعت الضرورة ذلك، وصنع نجوما "مستعدة" لكل شيء لا يعصونه في شيء ويفعلون ما يؤمرون. هذا النظام الرهيب لم يكن يظهر قبل الثورة إلا في جانبه القمعي البوليسي، لكن سماته وقدراته الأخرى بدأت تتجلى مع الأيام الأولى للثورة. لقد عرف العسكر منذ الوهلة الأولى لاندلاع الثورة في مصر، كيف يحتوون الوضع ويركبون الموجة رغم عدم اعترافهم ولا إيمانهم بهذه الثورة، ولا بالديمقراطية ولا بالحرية ولا أدل عن ذلك ما كانت تتناقله بعض الصحف من تصريحات جنرالات النظام ومواقفهم من الثورة لعل أبرزها تصريح سامي عنان عندما قال لإحدى الاعلاميات باستهتار كبير"ثورة إيه يا شيخة"..
العسكر .. التضحية بالرئيس لإنقاذ النظام قبيل الثورة وفي مرحلة الاحتقان التي كانت تعرفها الساحة المصرية لم يكن العسكر على قلب رجل واحد مع مبارك ورجاله، بسبب توجه الريس نحو توريث الحكم لابنه جمال.. العسكر كانوا يتوجسون من ذلك ويرفضونه ولو على استحياء ليس لأنه عمل غير صالح أو لأنه سلوك غير ديمقراطي، إنما لأنه كان سيسحب الحكم منهم بهدوء لصالح رجل مدني يمكنه أن يحيد العسكر بنفس الطرق والوسائل التي أسسوها هم أنفسهم للاستئثار بالحكم فيسلبهم القدرة على التأثير، لذا كانت الثورة فرصتهم الذهبية وقارب النجاة الذي سيخلصهم من هذا الخطر الداهم على مُلكهم فركبوا موجتها، ومارسوا ضغوطهم على "الريس". المؤسسة العسكرية ركبت موجة الثورة ليس استجابة منها لإرادة الشعب وتطلعه إلى الحرية والانعتاق من الاستبداد، لأنها هي جوهره وعماده، ولا احتراما للديمقراطية وحرية التعبير، ولا اقتناعا بذلك ، إنما: أولا: للإطاحة بمشروع التوريث عن طريق التخلص الهادئ من "الريس" عراب هذا المشروع، بحجة أن الشعب ثار ضده ولا مناص من ذهابه، مع ضمان ألا يمسه سوء مهما كانت سلبية مسرحية المحاكمة التي يجب أن يخضع لأدوارها ويقبل بتفاصيلها على ما فيها من مهانة.. وثانيا: لاحتواء الثورة، وتوجيهها ومن ثم إفشالها، حتى لا تخرج عن السيطرة ولا تحول هدفها من الاحتجاج ضد الرئيس إلى الاحتجاج ضد النظام الذي أرسته. فلا تستكمل أركانها لأن نجاح الثورة في آخر المطاف يكمن في تغيير أسس النظام، والتأسيس لنظام جديد وليس تغيير الأشخاص فقط..
مؤامرة شيطنة الإخوان الهدف الأول تحقق بفضل استجابة الرئيس بعد محاولات للمقاومة، لكن الهدف الثاني عرف أول تعثر عندما فشلت محاولة احتفاظ المؤسسة بمقاليد الحكم مباشرة عن طريق سيناريو تعيين مدير المخابرات عمر سليمان نائبا للرئيس وتكليفه بالاضطلاع بكل صلاحيات "الريس"، ثم تولي المجلس العسكري رئاسة الدولة وتعيين حكومة جديدة والتحضير لإجراءات سياسية ودستورية وقانونية.. الجميع في مصر وخارجها كان يعلم علم اليقين أن أية انتخابات ديمقراطية وأي انفتاح على الحرية يعني وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة والسيطرة على كل مؤسسات الدولة.. وما المماطلة التي كان يمارسها المجلس العسكري إلا لوضع الخطط والبرامج المستقبلية لمواجهة الإخوان وإفشالهم في أول فرصة تتاح، والعمل الدؤوب من أجل تجنيد كل مقومات نظام العسكر الرهيب وشبكة تحالفاته المالية والقانونية والدينية والإعلامية.. مرحلة لعبت فيها المخابرات وأجهزة الأمن، والقضاء والإعلام دورا محوريا في عملية تقويض فرص نجاح الإخوان ومن ثم التحضير للتخلص منهم..
الترويج للفشل لتبرير الانقلاب وعلى هذا النهج سار "النظام" في تسيير الثورة وتداعياتها، يحتاط لكل مرحلة معتمدا أكثر في هذه الفترة على القضاء، فعندما فاز الإخوان بالانتخابات التشريعية بيت لهم النظام أمرا، فعكفت آلته القضائية على الموضوع حتى خلصت إلى حل البرلمان – لا تهم الحجة أو الذريعة لأن العبرة بالنتيجة – لحرمان الإخوان من أية إمكانية لإدخال تغييرات عن طريق التشريع. وتفرغ "نظام العسكر الرهيب" لمحاصرة الرئيس بشتى الطرق وبدهاء وذكاء كبيرين، فغطى على كل منجزاته التاريخية التي اعترف بها الأعداء (أنظر تصريحات جيمي كارتر) قبل الأصدقاء (أنظر تصريحات العالم التركي عبدالقادر خان)... وألب ضده البشر والشجر والحجر كل يصرخ بالفشل منذ اللحظة التي فرغ فيها من أداء اليمين الدستورية.
"المندسون" في كل مكان لقد أعطى "النظام" الإيعاز لأذرعه في كل مكان وعلى جميع المستويات للانطلاق في عملية الإطاحة التدريجية بالرئيس عن طريق الشارع، أو بما يعرف بالثورة المضادة.. أزمة النائب العام، تحرشات الزند رئيس نادي القضاة، الإعلان الدستوري والدستور ثم الاحتجاجات وتقاعس مؤسسات الدولة وأجهزتها عن أداء دورها والاضطلاع بمهامها.. وتكاتفت جهود المخابرات و"المخبرجية والبلطجية" والمندسين في كل مكان والمزروعة في مختلف مناحي الحياة..، وما عرف بشباب الثورة ومافيا المال والأعمال، نفس الوجوه تقريبا تقود الاحتجاجات وتطلق النار، وتعتدي على الأمن تارة، وعلى المحتجين تارة أخرى.. العسكر لا يتركون شيئا للصدفة فعناصرهم في كل مكان حتى في متابعة ما تكتب الصحف في الخارج عن مصر تعرفهم من أسلوبهم الذي يعتمد على الشتم والسب بأغلظ الكلمات نفس الأشخاص يسبون ويشتمون في كل مكان من يجرؤ على انتقاد الانلابيين وزبانيتهم أنظر إلى "الآي بي" تكتشف التكرار تارة والتقارب تارة أخرى ..
مصر .. رهينة العسكر وهكذا حتى وصلت الأمور إلى حالة الاستنفار القصوى في صيف ألفين وثلاثة عشر واقتراب الساعة "صفر" للإطاحة بالرئيس عن طريق الانقلاب تحت ذريعة الثورة المزعومة التي قام بها الشعب لعزل الرئيس المنتخب من طرف الشعب، وأكذوبة الثلاثين مليون متظاهر التي تكفل الإعلام بتسويقها دون حياء في حين يجمع العالم بأسره أن عدد الذين خرجوا في تلك الثورة المزعومة لم يتجاوز في أقصى الحدود أربعة ملايين حسب تصريح الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر).. بالانقلاب اكتملت خطة العسكر في تنفيذ أركان الثورة المضادة للحفاظ على "النظام" وإنقاذ مملكتهم بأقل الخسائر لتظل الدولة رهينة في أيديهم لأجيال أخرى كما كانت قبيل الثورة.. وعاد العسكر إلى الحكم مباشرة عن طريق قائد الانقلاب الفريق عبدالفتاح السيسي الذي رقى نفسه إلى مشير ليصبح فرعون مصر الجديد.. وبقية التفاصيل معروفة.