تمثل مراكز الاحتيال السيبراني تهديدا هجينا يقع عند تقاطع الجريمة الإلكترونية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والاتجار بالبشر. إن قدرتها على توليد إيرادات هائلة غير مشروعة، وإفساد المؤسسات، وتمويل الجهات المسلحة، يجعلها تتجاوز كونها مجرد مصدر إزعاج إجرامي إلى قضية تتعلق بالسلام والأمن الدوليين، لا سيما في البيئات التي يسودها الفساد وتفتقر إلى الحوكمة، كما هو الحال في بعض مناطق كمبوديا وميانمار. وقد شهدت هذه الظاهرة تصاعدا ملحوظا خلال عامي 2023 و2024، حيث أصبحت مراكز الاحتيال المنظمة، والمدفوعة بالاتجار بالبشر في جنوب شرق آسيا، مصدرا صناعيا عالميا للاحتيال المعتمد على الإنترنت. وتجمع بين: الاحتيال الاستثماري والعاطفي: وهي مخططات احتيالية يُنشئ فيها المحتال علاقة مزيفة عبر الإنترنت لخداع الضحية وإقناعها بإرسال المال أو تقديم معلومات شخصية. الابتزاز الجنسي: وهي جريمة خطيرة يهدَد فيها الفرد بنشر صور أو مقاطع حساسة بغرض ابتزازه ماليا أو جنسيا أو للحصول على صور إضافية. تحويل الأموال غير المشروعة لصالح أطراف أخرى (وهم من يعرفون باسم "بغال الأموال") الاحتيال بالعملات المشفرة: بما يشمل التصيد الاحتيالي، ومخططات بونزي، ومنصات التداول الوهمية، وعمليات "السحب المفاجئ" التي تعد بعوائد خيالية. أساليب الضغط الشديد والعروض غير المرغوبة، خاصة عبر تطبيقات المواعدة. بالإضافة إلى المقامرة عبر الإنترنت (iGaming أو iGambling). وتدر هذه الأنشطة مجتمعة إيرادات غير مشروعة تُقدر بمليارات الدولارات سنويا، مما يعزز من قوة الشبكات الإجرامية العابرة للحدود، ويمول بشكل مباشر الجماعات المسلحة غير الحكومية، والمسؤولين الفاسدين، أو الحكام المستبدين. وبحسب وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) في أغسطس/آب الماضي، فإن أكثر من 90% من معاملات "بغال الأموال" التي تم تحديدها من خلال عمليات مكافحة هذه الظاهرة في أوروبا، مرتبطة بالجرائم الإلكترونية. وغالبا ما تكون هذه الأموال غير القانونية ناتجة عن أنشطة إجرامية مثل التصيد الإلكتروني، وهجمات البرمجيات الخبيثة، والاحتيال في المزادات عبر الإنترنت، وفي التجارة الإلكترونية، وعبر البريد الإلكتروني التجاري (BEC)، والاحتيال باسم المدير التنفيذي، والاحتيال العاطفي، وفي الحجوزات السياحية، وغيرها. وفي تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في نوفمبر/تشرين الثاني بعنوان: "محتالو الرسائل النصية يجنون عشرات الآلاف شهريا"، أشير إلى أن أسلوب "الاحتيال عبر الرسائل النصية" -وهو مزيج من "SMS" و"Phishing" – ينتشر على نطاق واسع في أنحاء العالم. ويقوم فيه المحتالون بإرسال رسائل نصية مزيفة تبدو وكأنها صادرة عن بنك أو شركة موثوقة، لخداع الأفراد للكشف عن معلوماتهم الشخصية مثل كلمات المرور أو أرقام التعريف الشخصية، بهدف سرقتهم ماليا. وتتابع شرطة مدينة لندن، وشرطة العاصمة البريطانية هذه الجرائم من خلال وحدة مكافحة جرائم البطاقات والمدفوعات. ووفقا للجنة التجارة الفدرالية الأميركية (FTC)، فإن الاحتيال عبر الرسائل النصية وحده يسفر عن سرقة مئات الملايين من الدولارات سنويا، حيث خسر الأميركيون نحو 470 مليون دولار في عام 2024 فقط. ويُرجح أن هذا الرقم لا يعكس الحجم الحقيقي للجريمة، لأن كثيرا من هذه الحوادث لا يتم الإبلاغ عنها. وعلى نطاق أصغر، تُستخدم البيانات الشخصية التي تُسرب عبر الإنترنت لاختراق الهواتف المحمولة، وسرقة مبالغ قد تصل إلى آلاف الدولارات. ..جنوب شرق آسيا عائلات المافيا المتخصصة في الاحتيال، مثل عائلتَي باي ومينغ (اللتين تعودان في الأصل إلى الصين)، كانت تدير مراكز للاحتيال السيبراني منذ أوائل العقد الأول من الألفية على نطاق صناعي، وتتحكم في مليشيات مسلحة تابعة لها، وتشغل ما لا يقل عن 41 مجمعا محصنا يضم عناصر إنفاذ مسلحين تسليحا كثيفا، غالبا ما تكون هذه المجمعات قد أُعيد توظيفها من فنادق أو كازينوهات. يتم تهريب الضحايا -ومعظمهم من الصينيين وآسيويين آخرين- ويُحتجزون في ظروف قسرية، ويتعرضون لإساءة المعاملة والتعذيب، ويُجبرون على تنفيذ عمليات احتيال على نطاق واسع ولسنوات طويلة، ضمن شبكات إجرامية عابرة للحدود تدر مليارات الدولارات. وقد أصبحت تجارة المخدرات والدعارة، بالمقارنة، أنشطة ثانوية في ظل هذا النموذج الجديد. برزت كمبوديا وميانمار كمراكز رئيسية لهذه الأنشطة، مع وجود مواقع أصغر في لاوس (لا سيما المنطقة الاقتصادية للمثلث الذهبي)، والفلبين، وماليزيا، حيث أظهرت الحملات الأمنية الأخيرة بعض التقدم. ويُقال إن اقتصاد الاحتيال في كمبوديا قد نما ليصبح قطاعا تبلغ قيمته عدة مليارات من الدولارات سنويا، مستفيدا من غياب الحوكمة، ودعم سياسي رفيع المستوى، وفساد واسع النطاق. وبالمثل، تستضيف ميانمار مجمعات ضخمة تديرها منظمات إجرامية عابرة للحدود وبعض الجماعات المسلحة العرقية، حيث يُقال إن عشرات الآلاف من الضحايا يُستغلون في ظل رعاية مزعومة من دكتاتور المجلس العسكري، الجنرال مين أونغ هلاينغ. يمزج هذا النموذج الإجرامي العابر للحدود بين الأساليب الرقمية- مثل الذكاء الاصطناعي، والتزييف العميق، والهندسة الاجتماعية- وبين الإكراه الجسدي المباشر، ويعتمد على شبكة معقدة من غسل الأموال تشمل وسطاء ماليين مرخصين وغير مرخصين، ومنصات عملات مشفرة، وتدفقات نقدية عابرة للحدود، وبنوكا خاصة. الاستجابات الدولية الحالية- بما في ذلك العمليات الأمنية، والعقوبات، والمصادرات متعددة الأطراف- بدأت تُحدث بعض الإرباك في هذه الشبكات، لكنها لا تزال غير كافية من حيث الحجم والتنسيق لمواجهة التهديد بشكل فعال. الأهم من ذلك، أن بعض الدول المعنية- مثل الصين والهند وتايلاند-بدأت، إلى جانب الإجراءات متعددة الأطراف التي تتحرك ببطء، في اتخاذ خطوات مباشرة من خلال عمليات شرطية وضغوط دبلوماسية قوية على الدول المضيفة؛ لقمع عمليات الاحتيال في جنوب شرق آسيا، وإنقاذ مواطنيها من قبضة الشبكات الإجرامية العابرة للحدود. وقد تم اعتقال وترحيل وإدانة عدد من أفراد عصابات الاحتيال السيبراني سيئة السمعة في ميانمار، المنتمين إلى عائلتي باي ومينغ، في الصين، حيث أدينوا بتهم تتعلق بالاحتيال، وجرائم قتل متعددة، والتسبب بإصابات، وجرائم أخرى، منها مقتل ستة مواطنين صينيين وانتحار أحدهم. وقد أصدرت محكمة الشعب المتوسطة في شينزين حكما بالإعدام على خمسة من كبار قادة مافيا باي ومينغ.