تطرقنا في الحلقة الخامسة من نهار أمس إلى جمال و بهاء الجامع الأموي الكبير بدمشق، هذا الينبوع الصافي المفعم بمشاعر الحب و التسامح الديني بين أفراد الشعب السوري الشقيق، الذي يسعى جاهدا إلى توحيد الصفوف و تضميد الجراح، و العمل قدر المستطاع على لملمة أوصال الجسد الواحد و اقتراح الحلول السلمية الشرعية التي من شأنها إسكات لغة السلاح بين الإخوة السوريين الفرقاء... صلاة على وقع القصف والاشتباكات صلاة الجمعة في هذا المسجد ستبقى ذكرى خالدة بالنسبة لي ما حييت، لسببين رئيسيين أولا لأن المكان تاريخي و عريق، و ثانيا أنني أديتها على وقع أصوات القصف القوية بين الأطراف المتقاتلة، كل شيء كان عاديا بالنسبة للوفد الجزائري، باعتبار أنه كان يعتقد أن الاشتباكات بعيدة و لا يمكن سماعها من الجامع الذي كنا ننوي آداء صلاة الجمعة فيه، غير أنه و بمجرد أن بدأ إمام المسجد في تلاوة سورة الفاتحة حتى تفاجأنا، بصوت قذيفة عنيفة، سقطت ببضع كيلومترات عن الجامع الأموي، لم نكن ندري من قصف من؟ و ماذا أصابت؟ و هل أوقعت ضحايا؟ لكن ما شعرنا به كان مخيفا و مفزعا لم تسلم منه حتى جدران المسجد القديمة، حتى أنه أفقدنا تركيزنا و خشوعنا في الصلاة، حسِبها الوفد أنها ستكون أول و آخر قذيفة و لكن تبين فيما بعد أن تقديراته كانت خاطئة، حيث توالى القصف بين الجانبين المتحاربين، و لم يتوقف إلى وقت متأخر من نهار يوم الجمعة... واصل الإمام صلاته بشكل طبيعي غير آبهٍ بهذه القذائف المروعة، و كان كلما اشتد القصف يطيل في السجود مترجيا الله عز وجل أن يوقف الحرب الأهلية المدمرة على بلده، بدورنا لم نتوان في الدعاء لإخوتنا السوريين بأن يطفئ العلي القدير هذه الفتنة المستعرة التي لا تزال مشتعلة منذ أزيد من سنتين في أرض الشام المبارك، انتهينا من الصلاة و قمنا جميعنا نسلّم على سماحة الشيخ مأمون رحمة الذي رحّب بنا و شكرنا كثيرا على الزيارة التي قمنا بها إلى دمشق في هذه الظرف العصيب بالذات، و أكد لنا بأن مثل هذا الدعم المعنوي من شأنه التخفيف من وطأة الشعب السوري الذي يعاني أتون هذه الحرب الكونية المدمرة، ليقوم بالدعاء على بلده و سائر بلاد المسلمين أن يحفظها و يبعد عنها الرزايا و البلاء، حينئذ بدأ الكثير من المصلين السوريين بتحيتنا و التسليم علينا، آملين أن تكون هذه الخطوة التي قمنا بها فاتحة خير عليهم لاسيما في شهر رمضان المعظم الذي تكثر فيه شمائل التسامح، التكافل، التصالح و التكفير عن الذنوب و الخطايا، خرجنا بعدها من المسجد و اجتمع الوفد الجزائري كله أمام المركبة التي كان تقلنا، و أول ما افتتحوا به حديثهم هو شدة القصف الذي سمعناه و نحن نؤدي الصلاة ، فكان كل واحد منا يتساءل، هل الاشتباكات قريبة منا ؟ و هل يوجد ضحايا مدنيون؟ ماذا لو تم استهدافنا ؟ وقتئذ طمأننا مرافقنا الإعلامي السوري من أن المواجهات بعيدة عنا و تم معرفة مكانها بالتدقيق، مضيفا أنها ناجمة عن ضربات الجيش العربي السوري لبعض أوكار من سماهم بإرهابيي جبهة النصرة في منطقة جوبر بريف دمشق. في حضرة شخصيتين عظيمتين شخصيتان عظيمتان، و رجلان من طينة فرسان الأمة العربية الإسلامية الأشاوس، خلّدا نفسيهما بأحرف من ذهب، لما قاما به من مآثر و ملاحم ستظل مختلف الأجيال اللاحقة تتناقلها كابرا عن كابر، فالسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر، الشام، الحجاز، اليمن يرجع له الفضل في تحرير بيت المقدس من دنس الفرنجة في يوم الجمعة 27 رجب سنة 583 ه الموافق ل 2 أكتوبر 1187، هذا الأمر يعد في الحقيقة مفخرة لجميع العرب و المسلمين الذين هم في مسيس الحاجة إلى مثل هذه الإنجازات الكبرى التي من شأنها تنسيهم المحن و البلايا التي أصابتهم في هذا العصر بالذات، و بجانبه يرقد الإمام الكبير و شهيد المحراب العلامة رمضان سعيد البوطي، الذي قضى في تفجير إرهابي بجامع الإيمان وسط دمشق، حيث استطاع هذا النبراس الفكري المنير أن يكوِّن أجيالا من الطلبة و العلماء وفق منهج تربوي ديني قائم على الوسطية و الاعتدال، مع التركيز على ضرورة نبذ العنف و التطرف البغيضين... وقفت عند قبريهما، و أنا استشعر عظمة هاتين الشخصيتين البارزتين، اللتان قدمتا أعز ما تملك في سبيل نهضة أمتنا التي تتخبط اليوم في العديد من الأزمات و المؤامرات الخارجية الدنيئة، تمنيت و أنا أقف عند ضريح الناصر صلاح الدين الأيوبي، أن يظهر في هذا الزمان رجل من طينة هذا السلطان الشهم، يرفع راية الإسلام و العروبة عاليا، يوحِّد صفنا المنقسم و يعيد إلينا هيبتنا و سؤددنا الضائعين، ثم التفت إلى قبر شهيد المحراب العلامة رمضان سعيد البوطي، و دعوت الله عزّ و جل أن يهبنا علماء يحملون نفس هموم هذا الإمام الوسطي المعتدل الكبير، يهدي شبابنا الضال و يضيء درب طالب العلمي المتعطش للفكر السمح السديد، غادرت مقامهما و أنا متحسر على حالنا، باكٍ لوضعنا، ناقم على هذا " الخريف العربي " الذي حوّل بلادنا إلى ما يشبه حمامات الدم يتقاتل فيها الأخ مع الأخ، القريب مع القريب، و أبناء الوطن مع أبناء الوطن الواحد... عمران بطراز حي القصبة ! بعدما فرغنا من صلاة الجمعة، أخبرنا فواز اللحام نائب رئيس الجالية السورية بالجزائر، و منسق الوفد الشعبي الجزائري إلى دمشق، بأنه تم برمجة جولة سياحية إلى مقام السيدة رقية بنت الحسين بن علي رضي الله عليهم، حيث يقع مقامها في حي العمارة أي حوالي ( 100 م ) أو أكثر قليلاً من الجامع الأموي، و فضلنا هذه المرة ترك المركبة أمام المسجد، و نذهب مترجلين إلى المزار، للتعرف عن قرب على طريقة تشييد العمران السوري، و كذا الوقوف على آثار الدمار الذي خلفته هذه الحرب المدمرة، إذ و بعدما انتهينا من زيارة مقام السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، دخلنا بعدها في أزقة حي شعبي عتيق، كان ظاهرا عليه قدمه و تأثره بنوائب الظهر و الزمن، و لكن كان يلخِّص حضارة و ثقافة شعب عريق و أصيل، الطرق الذي كنا نسلكه لم يزد عرضه عن المترين، لاحظنا أعمال ترميم و إعادة اعتبار لبعض المنازل الهشة، التي تم تجديدها بطريقة جميلة و بديعة، حفاظا على هذا الإرث العمراني الذي يشبه بنيانه بيوت و منازل حي القصبة الشهير بالجزائر العاصمة، كان أفراد الجيش العربي لسوري منتشرين، في كل مكان، و كنّا كلما مررنا بنقطة تفتيش و مراقبة إلا و حيّونا على الخطوة التي قمنا بها، متمنين الخير و السؤدد للجزائر قيادة و شعبا... وقفنا عندنا أحد محلات بيع الحلويات الشامية، و أبى صاحب المحل إلا أن يقدم لنا بعض الحلويات، كإكرامية متواضعه من قبل هذا البائع السوري، كان مذاقها لذيذا و طريقة تحضيرها فريدة من نوعها و أخبرنا بأنها حلويات شامية خالصة، تباع بأسعار معقولة، و لم تتأثر قط بالأوضاع الأمنية المتدهورة في بلده، حفاظا على الاقتصاد الوطني، و حمايته من كل أشكال المضاربة الفاحشة، أكملنا سيرنا باتجاه الضريح، كان وقتها صوت القصف شديدا و وقويا، و لكن المفارقة أننا وجدنا المقام يعج بالزائرين و الزائرات غير آبهين به، و كأنهم يقولون في قرارة أنفسهم، لا نخشى شيئا ما دامت بركة السيدة رقية ستحمينا و تحفظنا من هول هذه الحرب الكونية المدمرة.