أوقفته مجموعة من اللصوص, و هموا بالاستيلاء على كل ما يحمله, لكنهم وجدوا جيوبه خاوية إلا من ولاعة رخيصة و بطاقة الهوية, فأشفقوا لحاله و أعطوه علبة سجائر و خلو سبيله. لقد اختلطت عليه أحاسيسه, و لم يدري بماذا يجب عليه أن يشعر, كان شديد الرثاء على نفسه , لكنه وجد في الأمر بعض الطرافة , جعلت ابتسامة خافتة ترتسم على وجهه الحزين , كأنها شمعة صغيرة تصارع ظلام ليلة حالكة السواد. عندما وصل إلى الطريق السريع , كان الغبار يملأ حذاءه القديم , و طرفي سرواله البالي , أما قميصه الداكن الذي لا يكاد يغطي جسده النحيل , فقد بهت لونه و حال إلى البياض . وقف على طرف الطريق كالصنم بلا حراك, و حدق بذهول في الفراغ القريب, غير عابئ بأشعة العصر الحارقة التي كانت تلحف وجهه الشاحب, ذو العينين الغائرتين و الوجنتين البارزتين. لقد أمضى اليوم بطوله متنقلا بين أنحاء المدينة المترامية الأطراف مشيا على الأقدام. تردد على أبنية كثيرة, و وقف في طوابير طويلة, و تسلل بين أروقة ضيقة و حجرات مكاتب صغيرة وتسلق أدراج سلالم مديدة, وانتظرا طويلا محدقا في أبواب موصدة حصينة. وهو على حال يومه هذا منذ ما يزيد عن ثلاث سنين , حين أكمل دراسته المتخصصة و حصل على الشهادة العليا, وهو يهوم مذ ذالك بين مختلف المصالح و الإدارات , يستخرج وثيقة من هنا و يضع ملفا هناك , طمعا في الحصول على وظيفة , تفرج عنه ضيق الحال و يعرف بها بين الرجال.أنهكه التعب من المشي طيلة النهار, إذ لم يكن لديه و لو بضع قطع نقدية يركب بها ما يبلغه مقصده, ومع أنه لم يتذوق شيئا منذ البارحة, فقد دخن كل العلبة التي تصدقت عليه, فوقف يفكر في آخر مكان خرج منه, أين طلبوا منه شهادة طبية تثبت عدم إصابته بأي مرض عقلي. كانت أصناف السيارات و المركبات تمر أمامه بسرعة تطوي الأرض طيا , و لا احد من راكبيها يلقى إليه بالا, و لو أن احدهم تمعن في هذا الواقف على حافة الطريق, لجزم انه لا يخرج عن أن يكون أحد الثلاثة... متشردا أو متسولا أو مجنونا , وما كان هو إلا إطارا ساميا قد أنهكه البحث عن عمل. تراءى له الطريق كأنه نهر مخيف يبتلع كل ما يلقى فيه , و لم يدري كيف تبادر إلى ذهنه في تلك اللحظة صورة جاره الذي وجد منذ فترة مشنوقا في غرفته الحقيرة , و لم يقبل إمام المسجد أن يصلى عليه وأمر الناس بالا يمشوا وراء نعشه , لطالما كان يراه متكئا على جدار في إحدى زوايا الشارع دون أن يكلم أحدا , لقد عاش وحيدا ومات بعد أن تجاوز الأربعين, و لم يخلف في هذه الدنيا شيئا , لا بيت ولا مال , لا زوج ولا ولد. فكر في إلقاء نفسه أمام الصخور العملاقة المتدفقة خلال النهر الجارف ربما تقذفه إحداها بمقدمتها المحدبة إلى الضفة الأخرى لعله يرتاح هناك من كل هذا الشقاء. اقتربت شاحنة ضخمة بسرعة هائلة راقبها و هي تدنو منه بلمح البصر, مد ساقه و خطى نحو الأمام . قطع الطريق عائدا إلى البيت , سيكمل بحثه في الغد , فغدا يوم جديد .