الجزء الخامس عشر " إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء" دلنا على هذا الصراط وضع أقدامنا على بداية السير فيه وأعنّا على الثبات عليه والمضيء قدما في هذا الاتجاه ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك فتزلّ أقدامنا وتضعف عزائمنا أو تنحرف بنا شهواتنا عن الغاية التي تقصّدها من أنعمت عليهم، وهم أربعة أصناف من المصطفين الأخيار " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" النساء: 69. النبيّون الذين اصطفاهم الله بالهداية والرشاد والصديقون الذين آمنوا بالرسالة والنبوّة وصنعوا منها قدوة وحركة حياة والشهداء الذين قدموا أروع "شهادة" على عظمة هذا الدين والصالحون الذين صلح حالهم بالدين فأصلحوا به الدنيا. ثم يلتحق بهم كل من آمن كإيمانهم وعمل كعملهم وصبر كصبرهم، وطوّع النفس لمقتضى العبادة والذكر والشكر..لله رب العالمين لا شريك له، فكان جزاؤهم في الدنيا أن جعلهم الله من المهديين إلى صراط الله المستقيم مع الذين اختاروا هذا النهج القويم وأطاعوا فيه الله ورسوله فصاروا من الذين أنعم الله عليهم بحسن الرفقة في الدنيا والإلحاق بالركب المبارك في الآخرة "وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا" النساء: 68، وهل هناك صراط أكثر استقامة وأقوم قيلا من صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهداية؟ فأعانهم على سلوك "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ"، فهو خط مستقيم لا اعوجاج فيه، وهو منهج واضح لا لِبْس فيه، وهو مهيع موصل لا ريب فيه، لأنه صراط الذين أنعم الله عليهم، وكيف ينعم الله على صفوة من خلقه بهدايتهم إلى أقصر الطرق الموصلة إلى الجنة ثم يجعل في هذا الصراط ما هو من مظنات الوصول ومريبات القبول؟؟ لم يترك لنا ربنا (جل جلاله) حرية "الاجتهاد" في طلب الهداية لكي لا يزايد عالم على جاهل أو يتطاول بها فقيه على أمي، أو يحتكرها قساوسة ورهبان أو يتأجر بها دعيّ أو دخيل، فيقول: أنا وحدي الذي أملك اسم الله الأعظم، وأنا وحدي الذي أعرف الصيغة المثلى التي تستدر بها مجاديح الهداية، لذلك نزعها الله من أيدي الناس جميعا بمن في ذلك رسول الله- وجعلها بين يدي رحمته، وقال لرسوله محمد (ص) "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" القصص:56 ، فالهداية كالحكمة ضالة من يبحث عنها عند الذي يملكها دلالة ومعونة، فهو وحده الذي يهدي من يشاء، إذا صدقت نوايا الباحثين عن الهداية التي هي هبة الله لعباده إلهامًا وتوفيقا وعطاء ورزقا وبيانا وإعانة.. فقد جعلها برحمته قاعدة عامة مبسوطة بين يدي الناس جميعا، يشترك فيها الغني والفقير والعالم والجاهل والبليغ والعييّ "اهدنا الصراط المستقيم" فيكون جواب الله لعباده "هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"، فإذا سأل العبد ربه الهداية بإخلاص وتجرد هداه الله إلى صراطه المستقيم، وعجبًا لأمر هذا الدين إذا انتميت إليه صرت وليًّا لجميع المنتمين إليه وصاروا هم جميعا لك أولياء يدعون لك في صلاتهم، حتى لو لم يجمعكم مكان ولم يجْرِ عليكم في حياتكم الدنيا نفس الزمان، ذلك أن الله هو رب الجميع، ومن آمن به وعبده وحده لا شريك له يصبح وليًّا لجميع عباده المؤمنين يدعو لهم ويدعون له بالهداية إلى صراط الله المستقيم بصيغة الجمع "اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"، ولو قرأها مؤمن بصيغة الإفراد "أهدني" بطلت صلاته وجرى اللحن على لسانه وطوّع القرآن بالتحريف لأنانية نفس ما جاء بها هذا الدين العظيم !! يتبع…