يقول الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" بأن الانتهازية والنفاق من أخطر الأمراض الاجتماعية الناتجة عن الاستبداد الذي يدفع بالبعض إلى التملق للسلطان إما خوفا على مصالح أو تحقيقا لمطامع و"أكل أموال الناس بالباطل" – حسب التعبير القرآني-، وعرف التاريخ الإسلامي ظاهرة الشعراء المتزلفون للسلاطين مقابل دريهمات معدودة، بالرغم من أن رسولنا الكريم )ص( يأمرنا بضرب المتملق بالتراب، فالانتهازية من الأمراض الاجتماعية الأشد فتكا بالأمم والدول، وكتب عن خطورتها حتى النازي العنصري هتلر، ففي بعض الأحيان حتى المجانين والمجرمين يقولون أشياء جميلة وحكيمة، ومنهم هتلر الذي يقول في كتابه "كفاحي" كلاما وجيها عن أخطار الانتهازيين على الأمم، وحملهم مسؤولية انهيار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، والجميل في كلامه تصنيفه ألمان بدايات القرن 20 إلى ثلاث، وهم الوطنيون الخلص والخونة الواضحين، لكنه لا يرى الخطر الأكبر في هؤلاء الخونة، بل في صنف ثالث هم الانتهازيون الذين يميلون إلى أين تميل القوة، ويختم تصنيفه بالقول أنه كلما تكاثروا في أمة سارت تلك الأمة إلى الهلاك، وكأني به ينقل قول الله تعالى في كتابه الكريم عن المنافقين الذين وضعهم في الدرك الأسفل من النار، لكن هل كان هتلر يدرك أن أغلب مطبليه سينقلبون عليه بمجرد ما ينتهي كما يقع لكل المستبدين ؟ عرف شعبنا انتهازيين كثر في تاريخه، فكانوا سببا رئيسيا في استعباده، فلم تبق فرنسا 132 سنة في الجزائر إلا بهذا الصنف من الناس، فمثلا في العهد العثماني كان الحكام يستغلون شعبنا بتقسّيمه إلى قبائل المخزن وقبائل الرعية، فالأولى تقاتل الثانية لجلب الضرائب للحكام العثمانيين مقابل إعفائها من دفع الضرائب، وهي تقريبا نفس الضرائب المجحفة التي فرضها الاستعمار الفرنسي فيما بعد، لكن بشكل أبشع، فدراسة ممارسات قبائل المخزن تساعدنا على فهم جذور ومظاهر الانتهازية في جزائر اليوم، فهذه القبائل التي خدمت الحكام العثمانيين هي نفسها التي عرضت خدماتها على الاستعمار الفرنسي بمجرد ما رحل أسيادها العثمانيون بالأموال المنهوبة من شعبنا، وهي نفسها التي كانت تغيّر مواقفها من الأمير عبد القادر حسب ضعفه وقوته، وكانت أحد أسباب فشل مقاومته الباسلة بعد ما ساهمت في حصاره، ومنها برزت هذه الانتهازية في جزائر اليوم، والتي فتكت وتفتك بأمتنا، فتطبّل لكل قوي حتى ولو كان أجنبيا، لأنها تحرّكها البطون لا المبادئ، فهي "بني وي وي" في العهد الاستعماري و"بني نعم" بعد1962، يطبلون لكل الرؤساء والسياسات رغم التناقضات الحادة فيما بينها مقابل الاستفادة من الريوع، وينتقلون من النقيض إلى النقيض، ويركبون كل المراكب دون حياء، فلا يوجد أحسن من كتاب "مقالة في العبودية المختارة" للفرنسي أتين دي لابويسيه المنشور في 1568 لفهم هذا الصنف من الناس، وكيف تستعبد وتستغل بواسطتهم الشعوب.