من منا لا يشدّه الحنين إلى روايات نجيب محفوظ. كثيرا ما نغامر صوب الروايات العالمية، لكننا سرعان ما نعود إلى قراءاتنا الأولى، فنعيد قراءة أعمال نجيب محفوظ، أو الطيب صالح، أو حنا مينا، وحتى طه حسين. فالقراءة، في بعض الأحيان، تعتبر لحظة مليئة بالحنين والنوستالجيا. ولروايات نجيب محفوظ، بالأخص، فعل خاص عليّ، به بدأت قراءة الرواية بالعربية، لذا يحتل مكانة خاصة بالنسبة لمخيّلتي الأدبية. وبسبب نجيب محفوظ، وصلتني أول رسالة تهديد بالقتل، بعد أن دافعت عنه في ملف من صفحتين، عقب تعرّضه لمحاولة اغتيال في أكتوبر .1994 ما يثيرني في نجيب محفوظ أنه أدرك، مبكرا، أن الرواية كما ظهرت في الغرب هي فن الطبقة البورجوازية وسكان المدن لمواجهة سلطة النبلاء، وهي سائرة نحو الأفول. من هذا المنطلق، نجده قد ساهم في الرواية إلى جانب توفيق الحكيم في المسرح، وطه حسين في النقد الأدبي، وسلامة موسى في الفلسفة والفكر، في توطيد أسس ثقافة مصرية ليبرالية ووطنية، رفعت شعار ''مصر عمرها سبعة آلاف سنة''، في إشارة واضحة إلى الأصول الفرعونية لمصر التي تجلت في رواية ''عودة الروح'' لتوفيق الحكيم، وكتابات العقاد وطه حسين في مرحلة أولى، ثم في أعماله الأدبية الأولى التي نشرها في الثلاثينيات والأربعينيات، وهي ''همس الجنون'' (1938)، ''عبث الأقدار'' (1939) ''رادوبيس'' (1943)، ورواية ''كفاح طيبة'' سنة .1944 فقد كانت مصر الفرعونية من عناصر الرؤية الرومانسية لذلك العصر، وهو يكافح الوجود الأجنبي بإبراز الأمجاد القديمة. كما قام، في هذه الأعمال التاريخية، بإسقاط المعاني على النظام السياسي السائد آنذاك، والذي تميز بالتحالف بين العرش الملكي وحكومات الأقلية الديكتاتورية. أراد نجيب محفوظ تصوير النزعة الإنسانية، وانتقاء موضوعات حيّة من التاريخ المصري القديم. وكتب الرواية التاريخية وهو واقع تحت تأثير جورجي زيدان الذي سلم نفسه لأحداث التاريخ، وحاول الهروب من هذه الأغلال بالإطناب في وصف الطبيعة التي كانت تستنفد منه صفحات عديدة في رواياته. ولا يمكن فهم هذا الإطناب إلا بالعودة إلى ما كتبه الدكتور نبيل راغب، ومن هنا كانت أهمية قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ، لأنه أرسى تقاليد جديدة استقاها من دراساته المستفيضة في الفنون المختلفة، واطلاعه على الأدب العالمي، ثم هضمه لكل هذه الثقافات والأشكال الجديدة، ما ساعد على بعد الرؤية وعمق النظرة وطول النفس في السرد الفني والتشكيل الدرامي لأعماله الروائية الطويلة وتفادي أخطاء المنفلوطي والمازني وحافظ إبراهيم وجورجي زيدان والعقاد وطه حسين وهيكل، سواء تركزت هذه الأخطاء في الوعظ والإرشاد والاسترسال السردي، أو الشطحات الرومانسية، أو الهجوم على عيوب المجتمع ومحاولة إصلاحها، واعتبرها أخطاء لأنها ميدان الأدب التي تختص بها ميادين أخرى في الحياة. ولم يأخذ نجيب محفوظ من التاريخ الفرعوني إلا ما هو أساسي. فهو لم يتقيّد بالوقائع التاريخية، وإن حافظ على الشخصيات المتصلة بها. وكان في معالجته الروائية أقرب إلى العمل الحقيقي للروائي، وهو الاستلهام لا إعادة الصياغة، بل كان يؤسس استلهامه لذلك التاريخ على رؤية فكرية معيّنة، تحدّدت في رواياته الثلاث الأولى. حين يكتب نجيب محفوظ عن التاريخ، فهو إنما يفعل ذلك وعينه على الحاضر. هو يستخدم الماضي قناعا للحاضر، يقف وراءه ويقول ما لا يستطيع أن يقوله جهارا نهارا، بحكم المحظورات السائدة. وهو أيضا يلجأ إلى التاريخ باعتباره تجربة مكتملة منتهية، يسهل تقويمها واستخلاص العبرة منها والانتفاع بها في الحكم على الحاضر وتوجيهه هذه الوجهة أو تلك. وقد تدرجت الرؤية المحفوظية في الروايات التاريخية الثلاث على نحو بارز. ففي روايته الأولى ''عبث الأقدار''، مال إلى الإيمان بالدور المطلق للقدر في تحريك التاريخ والبشر. وفي روايته الثانية ''رادوبيس''، نقل قوة القدر المطلقة من خارج الفعل البشري إلى داخله، فأصبحت هذه القوة تحرّك التاريخ والبشر على نحو أشمل وأعمق. وفي روايته الثالثة ''كفاح طيبة''، ظهر وعيه بالدور النسبي للبشر في تحريك التاريخ، وتنبه لدور الفرد في هذا التحريك. والحقيقة أن نجيب محفوظ لم ينفرد بالاحتفاء بالتاريخ الفرعوني، وإنما كان اهتمامه جزءا من تيار فكري رئيسي، يبحث عن هويته الوطنية والثقافية إبان الاحتلال البريطاني في الجذور المصرية القديمة، روايات البحث عن الذات الضائعة. ونجده قد عبّر في هذه الأعمال عن خيبة أمله في ثورة 1919 التي آمن بها بشدّة، وكذلك كشف إحسان عبد القدوس الجوانب المنهارة في الطبقات العليا في المجتمع المصري، ومثله فعل يوسف السباعي في رائعته ''السقا مات''. لكل هذا، لا بد من العودة إلى حضرة السيد نجيب محفوظ، فهو معلمي الأول.