لقد تكرّر ذِكر الإيمان والعَمل الصّالح مقترنين في القرآن الكريم في أزيد من خمسين آية، ما يدلّ على أهمية العمل الصّالح في ميزان الإسلام، فالإيمان ليس مجرّد ادّعاء وأقوال وأحوال، بل هو عمل صالح ونيّة صادقة وعقيدة راسخة وقول حسن. تقرّر أن لا نجاة ولا فوز في الدّنيا أو الآخرة إلاّ لمَن آمن وعمل صالحًا، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}. وهنا ربما ظنّ البعض أنّ المرء يكفيه أن يكون صالحًا في نفسه لينال وعد الله لمَن آمن وعمل صالحًا، فيقول: إنّي مؤمن أحرص على العمل الصّالح، فلا يهمّني الفساد إذا كثُر وانتشر، ولا يضرّني الفاسد إذا علا وظهر! وهذه غفلة وسوء فهم، فقوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يشمل فيما يشمل - بلا ريب - الإصلاح، وهذا ما تؤكّده السّورة العظيمة الجليلة الّتي رسمت لبني الإنسان طريق النّجاة والفلاح والفوز والنّجاح: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. فالإنسان في خسر ما لم يكن مؤمنًا يعمَل الصّالحات، وعلى رأسها الإصلاح الّذي أكّدت عليه السورة بذكر التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر بعد ذكر عمل الصّالحات، قال الشيخ ابن عاشور: [وَعُطِفَ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ للاهْتِمَامِ بِهِ؛ لأَنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ، يُظَنُّ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ مَا أَثَرُهُ عَمَلُ الْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ، فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِ غَيْرَهُ وَدَعْوَتَهُ إِلَى الْحَقِّ، فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ يَشْمَلُ تَعْلِيمَ حَقَائِقِ الْهَدْيِ وَعَقَائِدِ الصَّوَابِ وَإِرَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى فَهْمِهَا بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ]. وهذا المعنى ينبّه عليه أيضًا حديث زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ قَالَت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟، قال: “نَعَم؛ إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ” رواه البخاري ومسلم. إذا كثُر الخبث حلّ الهلاك مع وجود الصّالحين، فكيف مع قلتهم أو مع عدمهم؟! والخُبث فسّره جمهور العلماء بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزِّنا خاصة، وقيل: أولاد الزّنا، والظّاهر أنّه المعاصي مطلقًا، فجملة القول في معناه: أنّه اسم جامع يجمع الزّنا وغيره من الشّرّ والفساد والمنكر في الدين. ومعنى الحديث: يهلك عامة الناس بفساد بعضهم، ولو كان فيهم الصّالحون؛ إذا عزّ الأشرار، وذلّ الصّالحون، وانتشرت الفواحش، وفشت المنكرات، ولم ينكرها أحد، فيشمل الهلاك مَن لم يظلم ولم يُشارك في فعل الخبائث لكنّه اطّلع ولم ينكر مع القدرة. ذلك أنّ للمُجاهرة بالمنكر من العقوبة مزيّة ما ليس للاستتار به؛ من حيث إنّهم كلّهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنّهي عنه والتّغيير على فاعله إلاّ أن يكون المنكر له مستضعفًا لا يقدر على شيء؛ فينكره بقلبه، فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفّارة وحشر على نيته. قال سبحانه: {فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، فَاللهُ تَعَالَى لا يُهلِكُ قومًا ظالمًا لهم، ولكن يُهلِكُ قومًا ظالمينَ أنفُسَهُم، متواطئين على فسادهم، غير منكرين على بعضهم، قال تعالى: {وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ}. فلا يكفي أن نكون صالحين لنَنجو من الهلاك، حتّى يُوجَد فينا أُولُوا بَقِيَّةٍ ممّن جمع الله لهم بين جودة العقل، وزكاة النّفس، وطهارة القصد، وقوّة الدّين ينهون عن الفَساد ويأمرون بالرّشاد. أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بوزريعة