تستمر الحرب في منطقة الشرق الأوسط منذ عقود، ومن نتائجها المباشرة تدمير جزء مهم من الحضارة الإنسانية، بحكم أن منطقة الشرق الأوسط هي مهد الحضارة الإنسانية رفقة الهند ونسبيا الصين. واستمرار هذا التدمير يجعل الحضارة الغربية هي المستفيدة، على الرغم من أن جذورها التاريخية محدودة زمنيا واستلهمت الكثير من الشرق الأوسط. في كل المدارس والكليات، عندما يجري تدريس التاريخ، خاصة الحضارة الإنسانية، عادة ما يبدأ الدرس بمنطقة الشرق الأوسط لأنها نقطة الانطلاقة. ويمكن هنا استحضار الكتاب المرجعي والشهير "التاريخ يبدأ من سومر" لصامويل كرامر، للوقوف على هذا المعطى المعرفي والتاريخي المركزي. وتمتد كل العلوم الرئيسية من رياضيات وفيزياء وكيمياء وإبداع أدبي وفلسفي إلى هذه المنطقة، حيث ترعرعت وتطورت في هذه المنطقة المتمثلة الآن من إيران إلى فلسطين، مرورا بالعراقوسوريا واليمن ولبنان، هذا التقدم الحضاري شهد تطورا آخر في مناطق جغرافية أخرى ومنها الغرب. لقد أرسى السومريون أسس الحضارة، ونقل الفينيقيون جزءاً منها للبحر الأبيض المتوسط، وتلقفها الإغريق لتكون انطلاقة ما يسمى بالحضارة الغربية. لقد تعرضت منطقة الشرق الأوسط، الحيوية في الحضارة الإنسانية، إلى تدميرين كبيرين، الأول وهو معرفي ويجري منذ قرون طويلة، ويتجلى الثاني في التدمير المادي المباشر لمعالم هذه الحضارة عبر الحروب. وعلاقة بالتدمير الأول، هو غبن تاريخي ومعنوي أكثر منه ماديا، ويرتبط بغياب الاعتراف العميق بالدور الحقيقي للشرق الأوسط في مسار تطور الإنسانية. تسيطر في وقتنا الراهن على العالم الحضارة الغربية، التي أنتجتها أوروبا مع نهضتها ابتداء من القرن الخامس عشر، وإذا أردنا منعطفا تاريخيا قد نختار ظهور المطبعة، وما شكلته من فجر جديد في الحضارة الإنسانية. ونظرا لهيمنة المؤرخين الغربيين في شتى المجالات، يميلون ومنذ القرن الثامن عشر في كتابة تاريخ العالم وحضارته الى إبراز دور الإغريق والرومان، على أساس أنه القاعدة الحضارية الرئيسية لكل ما حققته الإنسانية خلال العشرين قرنا الماضية. نعم يعترفون بحضارة دور الشرق الأوسط، ولكنها تتعرض لنوع من التقزيم، باستثناء كتابات محدودة مثل الكتاب المشار إليه سابقا "التاريخ يبدأ من سومر". وهذا ليس بغريب عن الفكر الغربي الذي يحاول أن ينسب كل تطور له، بل لم يتردد في تأميم الديانة المسيحية. فهذه الأخيرة نزلت في الشرق الأوسط، مهد الأنبياء، وتحول مركزها إلى روما والولايات المتحدة، لتصبح ديانة يتم بها التدخل في الشرق الأوسط، وتغيير الكثير من حمضه النووي السياسي والثقافي والحضاري بصفة عامة. ولا يتردد عدد من المفكرين والمؤرخين في اعتبار الولادة الحقيقية للغرب هي مع المسيح، بمعنى أن المسيح الذي ولد في الشرق هو عماد الغرب (في مقال سبق أن كتبته بعنوان "المسيح لم يكن غربيا"، في "القدس العربي" 9 يناير/كانون الثاني 2017 عالجت هذا الموضوع في فكر عدد من المفكرين). وما يحدث مع حضارة الشرق الأوسط يحدث مع حضارات أخرى مثل حضارة شعوب القارة الأمريكية قبل وصول الأوروبيين إليها سنة 1492. وعلاقة بالتدمير الثاني وهو الأخطر، فقد تحولت منطقة الشرق الأوسط، ومنذ بداية القرن الماضي إلى يومنا هذا إلى ساحة صراع وحروب مفتوحة زمنيا، بين حروب الاستعمار وحروب الاستقلال وحروب جديدة، نتيجة غرس الكيان الصهيوني في المنطقة العربية والتدخل الغربي. وتبقى الحروب المرتبطة بالتدخل الغربي وأساسا الأمريكي الأكثر فتكا بالتراث الحضاري في الشرق الأوسط. في هذا الصدد، حملت الحروب الأمريكية للشرق الأوسط، وبالا على التراث الثقافي في المنطقة، سواء أكان ذلك بصورة غير مباشرة أو بشكل مباشر، مثل ما ترتب عن القصف العسكري أو عمليات النهب الكبرى للمتاحف، ففي حالة العراق مثلا نتيجة حرب 2003، تعرض المتحف الوطني العراقي في بغداد لنهب واسع، حيث سُرقت آلاف القطع الأثرية، بعضها يعود إلى حضارات وادي الرافدين مثل، حضارة السومريين وحضارة البابليين. في الوقت ذاته، تضررت آثار بابل، نينوى، وأور بسبب إنشاء قواعد عسكرية وأعمال حفر عشوائية غير نظامية. وفي حالة سوريا، ترتبت عن الحرب الدولية ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، أضرار في مواقع مسجلة عالميا ضمن قائمة التراث الإنساني، مثل أجزاء من تدمر والرقة القديمة، خصوصا مع استخدام الجماعات المسلحة المتطرفة المواقع الأثرية كمقرات. ويتكرر هذا في فلسطين ولبنان واليمن، حيث إن تراجع أو انهيار الأمن، يشجع على تهريب الآثار إلى الغرب في إطار السوق السوداء، علاوة على أن فقدان الأطر التي كانت تشرف على صيانتها، إما بالتعرض للاغتيال أو النفي في الخارج، أو التهميش في الداخل. ونشهد في وقتنا الراهن حلقة بشعة للغاية، ذلك أن حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي قطاع غزة، ليست فقط إبادة العنصر البشري وتهجيره وإنما اقتلاع جزء من الذاكرة الحضارية للإنسانية. عمليا، يمكن تجاوز التدمير الأول ويصعب تجاوز الثاني، في هذا الصدد، تشهد أمم الجنوب بفضل تطور جامعاتها ومراكزها البحثية إعادة تقييم الحضارة من خلال إعادة كتابة التاريخ، وإبراز المعرفة الوطنية والإقليمية بعيدا عن الانبهار بهيمنة الثقافة الغربية، ويتم هذا عموما عبر مسلسل عقلاني، لا يرفض الثقافة الغربية، لكن يمنحها موقعها الحقيقي تاريخيا، من دون أن يكون ذلك على حساب ما هو وطني ومحلي. ويعتبر تجاوز التدمير الثاني عملية بالغة الصعوبة، إذ يتعلّق بتخريب مادّي مباشر، أتى على بعض المعالم التاريخيّة بالكامل، بحيث يغدو استرجاعها شبه مستحيل، إلّا عبر إنشاء وإنتاج نسخ مقلدة ، وهي وإن بدت مطابقة ستكون صناعية وستفتقر إلى روح التاريخ وأصالته. القدس العربي