انظر أيُّها الفاضل كيف كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُعلِّمُ أصحابه أهميَّةَ الوقت والدقّة في المواعيد، فالصّيام في وقت، والإفطار في وقت، والسّحور في وقت، وقل مثل ذلك عن سائر العِبادات، كلّها مضبوطة بمواعيد دقيقة، والأدق من هذا بالنّسبة للصّيام لو أنّ صائمًا لم يتقيّد بالمواعيد وتناول طعامًا قبل الغروب بدقيقتين مثلًا عامدًا فإنّ صيامه يبطل بالإجماع، أرأيت كيف يربِّينا الصّيام على الدقّة في المواعيد، حتّى نحافظ على أوقاتنا الّتي هي في الحقيقة أعمارنا. فكم نرى من الصّائمين من تأثّر بهذا الدرس، إذا دخلت على الموظّف في مكتبه في وقت فراغه تجده يقرأ القرآن، وكذا صاحب الدكان، ومَن لا عمل له، تجد الجميع لديه الحرص للاستفادة من الوقت وهو صائم، ولكن كم نتمنّى أن يستمر منّا هذا الحرص في ليل رمضان، وأن يمتد أيضًا هذا الحرص والمسابقة إلى الخير ما بعد رمضان، فإنّ المسارعة إلى الخير مطلوبة من المسلم كلّ وقت، قال الحقّ سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} يعني: بادروا إلى فعل الخيرات، كُن من السّابقين في الدّنيا إلى الخير، حتّى تكون منهم في الآخرة. والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإنّ الاستباق إليها يتضمّن فعلها، وإيقاعها على الوجه الأكمل، والمبادرة إليها، فمن سبق في الدّنيا إلى الخيرات، فهو السّابق في الآخرة إلى الجنّات. إنّ الصّيام لا يُربّينا فقط على الحفاظ على الوقت، بل وعلى الدقّة فيه، والاستفادة منه، فقال الله عزّ وجلّ: {أَيَّامًا مَعْدُودَات} يُذكِّرُنا ربُّنا أنّ رمضان أيّامًا قلائل عزيزة ونفيسة، فهي لا تلبث أن تَرحل. فمن المؤسف أن ترى بعض النّاس في رمضان، يقضون أوقاتهم فيما لا فائدة فيه، بل ربّما فيما يعود عليهم بالإثم، يفعلون ذلك في هذه الأيّام الفاضلة، الّتي تُفتَّح فيها أبواب الجِنان، وتُغلَّق فيها أبواب النِّيران!! فأيّ خير حُرِم هؤلاء؛ قال صلّى الله عليه وسلّم: “أتاني جبريل فقال: يا محمّد مَن أدرك رمضان فلم يُغفَر لهُ؛ فأبعده الله. فقلت: آمين”. لا أظن أنّ على وجه البسيطة أمَّةً فوضويَّةً وغير منضبطة لا في أعمالها ولا في مواعيدها كأمّة الإسلام للأسف، ولم يقف الأمر عند العامة والدّهماء، بل انتقل إلى الطبقة الّتي كان من الأحرى أن تكون غاية في الانضباط، وأعنِي الطبقة المتعلّمة المثّقفة، فكم نرى حياة كثير منّا فوضى، وعدم التزام بالمواعيد والأوقات، فإذا جاء رمضان أعطانَا هذا الدّرس العجيب في دقّة المواعيد والنّظام والمحافظة عليه. كان السّلف الصّالح يُبادرون أنفاسهم في حفظ أوقاتهم ولهم في ذلك قصص عجيبة، فمنهم مَن كان يقرأ القرآن وهو في سياق الموت كالإمام الجُنَيْد، قال له أبناؤه: أجهدتَ نفسك، فقال: [ومَن أحقّ النّاس بالإجهاد إلّا أنا]، وكان الأسود بن يزيد التّابعي يُصلّي أكثر اللّيل فقال له بعض أصحابه: لو ارتحتَ قليلًا، قال: [الرّاحة أريد يعني الآخرة ]، وجلس سفيان الثّوري في الحرم مع قوم يتحدّثون فقام من بينهم فزعًا وهو يقول: [نجلس هنا والنّهار يعمَل عمله]!!، ومن السّلف مَن قسّم نهاره وليله إلى ساعات، فساعات صلاة وتلاوة وذِكر وتفكُّر وطلب علم وكسب حلال ونوم، لم يكن للعب عندهم وقت. أمّا الأمّة اليوم فأصيبت بمصيبة ضياع الوقت في السفاسف، كثرة النّوم، البِطالة، الغَفلة، الشّرود، الإسراف في المُباحات والمَلهيات، وجلسات لا فائدة فيها، فمَا أسرع انصرام العمر ومرور الأيّام وتعاقب الليالي. دقّات قلب المرء قائلة له إنّ الحياة دقائق وثوانٍ فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذِّكر للإنسان عمر ثانٍ *إمام مسجد عمر بن الخطّاب بن غازي - براقي