واضح يشارك في مؤتمر تيكاد 2025    الجزائر تجدد التزامها بتنفيذ الإستراتيجية الأممية    إرهابي يُسلّم نفسه وتوقيف 3 عناصر دعم    نكسة كبيرة للمغرب    ربيقة: الجزائر قوية ومتماسكة    16 فريقاً على خط الانطلاق.. بأهداف متباينة    الجزائر تواجه السودان    ابتكار دواء للسرطان    التُجّار الموسميون يغزون الشواطئ    أيام لطوابع الجزائر    انطلاق برنامج حادي الأرواح    30 سنة على رحيل سيراط بومدين    خنشلة:افتتاح المهرجان الوطني الثاني للموسيقى والأغنية الشاوية وسط أجواء بهيجة    هلاك 9 أشخاص وإصابة 292 آخرين    الوادي : ضبط قرابة مليوني وحدة من المفرقعات    فرصة لرصد تطلعات ومناقشة كل ما من شأنه خدمة المجتمع    الجزائر تبقى أمة قوية ومتماسكة في مواجهة التحديات    فلسطين المجاهدة والأنظمة العربية ج2/2    الاعتراف بدولة فلسطين "مسألة وقت"    معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر: وزير النقل يترأس اجتماعا لمتابعة جاهزية القطاع لإنجاح الحدث    10 إجراءات لحماية الجمعيات من مخاطر تمويل الإرهاب    تدشين منشآت طاقوية جديدة بمنطقة تين فوي تابنكورت    تمديد آجال تحميل طعون المسجّلين في برنامج "عدل 3"    استعراض علاقات الأخوة والتعاون والمستجدات الإقليمية والدولية    نستنكر الصمت الدولي تجاه استهداف العمل الإنساني في غزّة    نقل جامعي: وزير النقل يشدد على ضرورة ضمان جاهزية الحافلات وتجديد الأسطول    محروقات : السيد عرقاب يشرف على تدشين عدة منشآت بتين فوي تابنكورت بإليزي    المقاومة تضرب بقوة وتلحق خسائر فادحة بقوات الاحتلال    تأكيد حرص الجزائر على دعم مسار التنمية بإفريقيا    الجزائر بلد فاعل ومسؤول في أسواق الطاقة العالمية    وجهة مفضلة لعشاق البحر    معارض الصناعة التقليدية تنعش موسم الاصطياف ب "بونة"    500 حافلة بقسنطينة مهددة بالسحب    نادي "الحمري" يأمل مشوار ناجح    "الخضر" يواجهون السودان وأزمة في المولودية    القبضة الحديدية بين يوسف بلايلي والترجي مستمرة    كرة السلة/ مهرجان "الميني باسكت": مشاركة منتظرة ل 400 لاعب من 15 دولة بمدينة جيجل    ذاكرة شعبية تورث للأجيال    خزائن للذاكرة وروائع الزمن الجميل    إبداعات من حقيبة الذكريات والنزوح    الأطفال يحتفون بالمجاهد في مكتبة بركات سليمان    المرصد الوطني للمجتمع المدني ينظم لقاء تشاوريا مع فعاليات المجتمع المدني بأولاد جلال    تحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية, سايحي يشرف غدا على إعطاء إشارة انطلاق القافلة الطبية المتنقلة    اليوم الوطني للمجاهد: تدشين وإطلاق عدد من المشاريع بغرب البلاد    بطولة افريقيا لرفع الاثقال (اشبال وأواسط): الجزائر تحصد 22 ميدالية منها 6 ذهبيات بعد يومين من المنافسة    تأهّل غير مُقنع    عرقاب يستقبل الأمين العام لمنتدى الدول المُصدّرة للغاز    هذه الحكمة من جعل الصلوات خمسا في اليوم    الجيش الوطني يساهم في إخماد النيران    الدولة تولي أهمية خاصة لتشجيع الكفاءات الوطنية    فتاوى : هل تبقى بَرَكة ماء زمزم وإن خلط بغيره؟    خالد بن الوليد..سيف الله المسنون    قتلة الأنبياء وورَثتُهم قتلة المراسلين الشهود    مناقصة لتقديم خدمات المشاعر المقدسة في حج 2027    منصة لاستقبال انشغالات المؤسّسات الصحية في أكتوبر المقبل    الوضوء.. كنز المؤمن في الدنيا والآخرة    دعم المراقبة الوبائية للملاريا المستوردة بالولايات الحدودية    حج 2026: وكالات السياحة والأسفار مدعوة للتسجيل وسحب دفتر الشروط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النّفاق.. والكلام الجميل المُنَمق!
نشر في الخبر يوم 27 - 03 - 2019

من البديهي أنّ سرائر النّاس، وما يختلج في صدورهم، وما تنطوي عليه قلوبُهم لا يعلمه إلّا العليم الخبير سبحانه، فالله عزّ وجلّ قد حجب عنّا معرفة ما في قلوب بعضنا لطفًا بنا ورحمة، سترًا لنا من جهة، وحفظًا لعلاقاتنا من جهة ثانية، وتمتيعًا لنا بالخصوصية من جهة ثالثة...
إلى غير ذلك من الحِكم البالغة. وهذه البديهة الظاهرة هي الّتي سدّت علينا باب الحكم على نيات النّاس وأغراضهم وما يعتقدونه، ولم تُتِح لنا إلّا التّعامل مع الظواهر، الّتي قد تتطابق مع الباطن وقد تتناقض معه، ولا يمكن معرفة ذلك إلّا إذا أظهر المرء ما يكنّه فؤاده وما يجنّه في قلبه.
وعليه فليس يجوز لأيّ إنسان أن يتّهم غيره بالنّفاق أو المخاترة والخديعة أو الخيانة أو غيرها من الصّفات القبيحة الّتي تتعلّق بالنّيات والأغراض. بل الأصل ألّا يحكم على الخلق إلّا خالقُهم، فهو الّذي كلّفهم، وهو الّذي سيحاسبهم، وهو أعلم بما في قلوبهم: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران:29، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} غافر:19-20.
وإذا تقرّر هذا فقد حفل القرآن العظيم بالكلام على النّفاق والمنافقين، وبيان صفاتهم وأحوالهم. والمثير أنّ أغلب الآيات النّازلة في النّفاق والمنافقين كانت في السنة الأخيرة من حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو قبلها بشهور، كما هو شأن سورة «براءة» أي «سورة التّوبة» الّتي نزلت في نهاية السنة التاسعة من الهجرة، والّتي تُسمّى كذلك «الفاضحة»، لأنّها فضحت المنافقين وسلوكاتهم. وتسمّى «المُقَشْقِشة»، لأنّها (تُقشّقش) أي تُخلّص العامل بها من أمراض النّفاق والكفر. وتسمّى «الحافرة»، لأنّها حفرت عمّا في قلوب المنافقين من النّفاق، فأظهرته للمسلمين. وتسمّى «المثيرة»، لأنّها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها. وتُسمّى «المبعثرة»، لأنّها بعثرت أسرار المنافقين، أيّ أخرجتها من مكانها. وتُسمّى «المُنقِّرة»، لأنّها نقّرت عمّا في قلوب المنافقين والمشركين. وتسمّى «البَحوث»، لأنّها تتبّعت صفات المنافقين وسلوكاتهم كالباحث عنها فأظهرت وحذّرت منها... إلى غيرها من الأسماء الّتي أطلقت على هذه السورة العظيمة.
ومن عادة العرب أنّهم يكثّرون أسماء ما يرونه مهمًا خطيرًا ويعدّدونه، كالإبل والفرس والسيف والأسد والكلب... إلخ. وما عدّدوا أسماء هذه السّورة الكريمة إلّا لأهمية مواضيعها عامة وموضوع النّفاق وصفات المنافقين الّذي أولته أهمية بالغة، وبلغت الغاية في بيانه وتجليته. وما ذلك إلاّ تنبيهًا للمسلمين من خطر المنافقين وتحذيرًا لهم من حبائلهم ومرواغاتهم، لأنّ النّفاق خطر داخليّ يعايش المجتمع المسلم يصابِحُه ويماسيه ويراوِحُه ويغاديه، وينخر عُراه من قريب، ويمزّق علاقاته ووشائجه من الدّاخل. ونزلت أغلب هذه الآيات - كما ألمحت سابقًا- في نهاية حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لتكون كالوصية الخاتمة لخطورة موضوعها وحيوته وأثره المباشر على المجتمع.
إنّ الآيات الواردة في النّفاق والمنافقين كثيرة، في سور عديدة من القرآن العظيم، بل ثمّة سورة اسمها: سورة المنافقون. وقد ذكرت هذه السّورة والآيات الأخر صفات المنافقين وأحوالهم وطريقة تفكيرهم بالتّفصيل الدّقيق والبيان العميق، ولكثرة هذه الآيات لا يمكن الكلام عليها كلّها في هذا المقام الضيّق المحدود. وإنّما أكتفي بالتّعريج على آية واحدة ذكرت صفة غريبة من صفاتهم وحالًا عجيبة من أحوالهم، وذلك قوله جلّت حكمته: {وإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون} المنافقون:4، أي {وإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم}، لصباحتها وتناسب أعضائها، أو لاهتمامهم بمظهرهم الخارجي حرصًا منهم على الظهور في هيئة من له شأن وقيمة، وفي هيئة المثقف والمتحضر في زماننا، {وإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم، أو لكلامهم في الشّأن العام والقضايا الّتي تَهُمّ النّاس جميعًا في زماننا.
هذا ما يحاولون الظهور به، ولكنّهم في حقيقتهم: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، قال سيّد رحمه الله: “ولكنّها ليست خشبًا فحسب، إنّما هي {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، لا حركة لها، فهم أجسام تُعجب، لا أناسي تتجاوب!... هذا الجمود الرّاكد البارد يصوّرهم من ناحية فقه أرواحهم إنْ كانت لهم أرواح!. ويقابله من ناحية أخرى حالة من التّوجّس الدّائم والفزع الدّائم والاهتزاز الدّائم: {يَحْسِبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ{، فهم يعرفون أنّهم منافقون مستورون بستار رقيق من التّظاهر والحلف والملق والالتواء، وهم يخشون في كلّ لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف، والتّعبير القرآني يرسمهم أبدًا متلفتين حواليهم، يتوجّسون من كلّ حركة ومن كلّ صوت ومن كلّ هاتف، يحسبونه يطلبهم، وقد عرف حقيقة أمرهم!!”.
والحقيقة أنّ قول الله عزّ وجلّ عنهم: {خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} يتجاوز الزّمان والمكان، ففي زماننا هذا يتنزّل هذا التعبير الرّبانيّ المعجز الخالد على حال المخادعين (المنافقين) الّذين يحاولون الظّهور في صورة القويّ الّذي يتبنّى هموم النّاس وتطلّعات الجماهير، وهو خاوٍ ضعيف لولا استناده إلى جهات خفية تدعّمه وتسنده وتحرّكه من وراء ستار، سواء جماعات الضغط، أو أصحاب المصالح، أو جهات استخباراتية، أو حتّى دول أجنبية أو منظمات مشبوهة... ولكنّهم في الأخير خشب لا قيام لها لولَا ما يسندها، وهي أوهن من بيت العنكبوت تخشى مجرّد الصّيحة الّتي هي صوت فقط وإن كان عاليًّا أو حتّى مُفزِعًا، فهو صوت!. وإنّما يخشون (الصّوت) لعِلمهم بحقيقة أنفسهم أنّهم لا يعدون أن يكونوا ظاهرة صوتية قد تعلو ولكنّها تذهب أدراج الأثير!.. ومع ذلك ينخدع لها الكثير!.
أؤكد مرّة أخرى أنّ العاقل مَن اشتغل بعيب نفسه عن عيوب الآخرين، ومَن اهتمّ بأمره عن أمور الآخرين، ومَن عرف قدر نفسه فلم يتألَّ على الله عزّ شأنه بالحكم على النّاس وتصنيفهم، وإنّما أثرت هذا الموضوع تنبيهًا وتحذيرًا في زمن كثُر فيه الادّعاء والتّظاهر!، وكثُر فيه أصحاب الأقوال المُنمّقة والأعمال القميئة!، وكثُر فيه مَن يرفع شعارات عالية وهو أوّل الكافرين بها!، وكثُر مَن يدعو إلى فضائل هو أكبر من يحاربها!. ولا يقولنّ قائل: إنّي لا أخدع!.. وأنا فاهم للوضع جيّدًا!... وأنا أعرف النّاس بالنّاس!..
ففي هذه الآيات إيماءٌ رائعٌ إلى أنّ لا أحد يسلَم من التأثّر بكلام المنافقين المُنمق وخطاباتهم الخادعة، حيث قال الحقّ جلّ شأنه لنبيّه عليه السّلام: {وإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} قال الإمام الآلوسيّ رحمه الله: “وهذا أبلغ.. لأنّ أجسامهم إذا أعجبته صلّى الله عليه وسلّم فأوْلَى أن تُعجب غيره، وكذا السّماع لقولهم”. ولكنّ رسولنا العظيم صلّى الله عليه وسلّم معصوم بأمر الله مؤيّد بوحيه، ونحن قطعًا لسنا كذلك، فلم يبقَ أمامنا إلّا الالتجاء لله طلبًا لحفظه وكلاءته، والاعتصام بالحذر والحيطة، وعدم تصديق كلّ ما يظهر ويبرز، ولا نغترّ بكثرة كما لا نستوحش من قلّة، ونحرص على الحقائق الصّادقة ونحذّر من الدّعايات الكاذبة ولو كانت مُنمّقة مُزوّقة!.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.