من بداية الوحي إلى الهجرة محطات حاسمة في الرسالة المحكدية كان الرسول عليه السلام يحب التأمل والتفكر منذ صغره ويذهب للخلاء يتأمل ويتفكّر بين الحين والآخر ربّما اكتسب هذه المهارة حين كان يرعى البقر في الصحراء الخالية والطبيعة الملهمة هناك وكلّما كبر كان يبتعد في مكان العزلة حتى التمس غار حراء في جبل النور ليذهب ويخلو به بنفسه يتمعّن ويفكر ويتأمّل يأخد معه الزاد ويبقى جالساً هناك لمدة أيّام وكان يقيم فيه رمضان يُمضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله هذه العزله هيأته نفسيّاً حتى يستعد للأمر العظيم وهو تشريف حمل الرسالة الأبدية لتغير وجهة الكون بكل الأبعاد. نزول الوحي حين بلغ الرسول عليه السلام سن الأربعين بدأت علامات النّبوة تظهر وتلوح من خلال رؤى صادقة تتحقق جميعها ثم فضّل المكوث في غار حراء طويلاً ليبتعد فيه عن البشر ويتهيأ للمهمة الكبيرة فقد كان يتهجد فيه لفترات طويلة حتى نزل عليه جبريل عليه السلام وهو في غار حراء فقال: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ يقول الرسول صلى الله عليه و سلم فغطني حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال: أقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) سورة العلق 1-5. فرجع الرسول عليه السلام إلى زوجته خديجة وقلبه يرتجف وقال لها: زملّوني فزملته حتى هدأت نفسه فأخبر خديجة بما حصل وقال لها :(لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة : كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) ثم أخذته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وأخبره الرسول عليه السلام بما حصل فردّ عليه ورقة بن نوفل: هذا ناموس الوحي الذي أنزله الله على موسى وبشره بأنّه سوف يكون نبي الأمة ثم انقطع عنه الوحي أيّاماً ثم عاود للنزول إليه جبريل مرةً ثانية وكانت في سبب نزول سورة المدثر.(5) الدعوة السرية الفرديّة إلى الله: حين نزل الوحي على الرسول عليه السلام مرة ثانية أمره بالقيام بعدة أوامر وردت في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ *) سورة المدّثر 107 . هنا أمر الله الرسول عليه السلام بالقيام بأمر الدعوة سراً واستمرت ثلاث سنوات في دار الأرقم وكان مطلوبٌ منه أن ينذر الناس عن مخالفة أوامر الله وأن يكبر الرب حتى لا يبقى فيها كبرياء إلاّ لله وحده وأن يُطهّر الثوب ويهجر الرجز ويُقصد هنا بتزكية النفس وتطهيرها ظاهراً وباطناً وعدم الاستمنان بجهوده وأفعاله وطلب منه الصبر على الأذى الذي سوف يواجهه من المُعاندين من سخرية واستهزاء بأمر دعوته. عرض الرسول عليه السلام الدعوة في البداية على أهل بيته والناس المحيطين به وأصدقاؤه المقرّبون وفي أول يوم من أيّام الدعوة أسلمت به من النساء زوجته خديجة بنت خويلد والتي كانت نعم المعين له في هذه الفترة فناصرته وشدّت على أزره ومن الشباب أسلم ابن عمه علي بن أبي طالب وصديقه أبو بكر الصديق ومولاه زيد بن حارثة. ثمّ تتابع إسلام بعض الصحابة سراً كانوا يجتمعون سراً مع الرسول عليه السلام في دار الأرقم ويرشدهم إلى تعاليم الدين ظلت الدعوة متخفّيةً ثلاث سنوات أسلم فيها ثلاثةٌ وخمسون شخصاً بينهم عشرة نساء.(6) الدعوة الجهريّة إلى الله وموقف قريش: جاء أمر الله إلى الرسول الكريم بأمر الدعوة الجهريّة العلنيّة إلى الله وذلك بصدد الآية الذي تلقاها (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) سورة الشعراء 214 فبدأ الرسول عليه السلام وأصحابه بدعوة قومه وعشيرته إلى الله فبدأ مع عمّه أبوطالب رفض تلبيته ولكن تعهد برعايته وحمايته من أذى قريش له ثمّ صعد على جبل الصفا يدعو قبيلته قريش ولم يتوان الرسول عليه السلام في نشر دعوته ليل نهار ثم أصبح يدعو قريش في كل مكان في أسواقهم ومواسم الحج وأنديتهم وفي كل تجمعاتهم وكانت دعوته تشمل جميع الناس الأحرار والعبيد والأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء ولكن الرسول عليه السلام وأصحابه واجهوا أقسى وأشد أنواع الظلم من قريش فبدؤوا بالسخرية والاستهزاء والتكذيب ونشر الشبهات عليهم وساوموا الرّسول بالمال والجاه وبدؤوا بالاعتداءات على النبي عليه السلام ثم أصبحوا يطالبون الرسول بالمعجزات حول نبوته ويتّهموه بالسحر وحين عجزت قريش بالمفاوضات السلميّة مع الرسول عليه السلام وأصحابه اتخذت قريش أسلوباً آخر وهو التفنّن بأنواع الأذى كانوا يلقون فضلات الحيوان أمام عتبة دار الرسول عليه السلام كما كانوا يلقون فضلات الناقة وهو ساجدٌ يصلّي وحاولوا خنقه بالثوب حتى الصحابة لم يسلموا من تعذيبهم وضربهم وتقييدهم وتهديدهم بالقتل. الهجرة إلى الحبشة حين رأى الرسول عليه السلام أن صحابته لم يعد بمقدورهم حماية أنفسهم من قريش اقترح الرسول عليه السلام أن يهاجروا إلى الحبشة فهي أرض صدق وحاكمها النجاشي عادل لا يظلم أحداً هاجر الصحابة بالبداية على دفعتين متلاحقتين ولاقوا معاملةً حسنةً من أهل الحبشة وكانت هذه تسمى بالهجرة الأولى. بعد أن اشتدّ أذى قريش على الصحابة هاجرت مجموعة كبيرة متنوعة من عدة قبائل فاستقبلهم أهل الحبشة أفضل استقبال وأكرموهم وعاشوا معهم بسلام اشتغل المسلمون مع الأحباش في كل المجالات وكانوا يمارسون شعائر دينهم بحرية. حاولت قريش بكيد المسلمين المهاجرين في الحبشة فأرسلوا وفداً من قريش للنجاشي يمثله عمرو بن العاص فأخبر النجاشي أنّ المسلمين في الحبشة يسبون عيسى بن مريم فأرسل النجاشي وتأكّد من صحة الكلام ثم علم بكيدهم وأمّن المسلمون وعاشوا بأمان حتى السّنة السابعة من الهجرة تمّ فتح خيبر فاستدعى الرسول مهاجري الحبشة بالعودة والاستقرار في المدينة. عام الحزن توفي أبو طالب عم الرسول عليه السلام وراعيه وحاميه إثر مرض ألمّ به حاول الرسول إقناعه بتوحيد الله إلا أن أبي جهل كان بجانبه ومنعه من ذلك وبعد وفاة أبي طالب بشهرين توفّيت السيدة خديجة رضي الله عنها في رمضان وعمرها خمسٌ وستون سنة فاجتمعت مصيبتان على رسول الله بفقدان عمّه الحامي وزوجته الجليلة التي شاركته وواسته ووقفت معه في أحلك الظروف. استغلّت قريش وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه ويتصدّى لهم فتوالت عليه المصائب بهذا العام وتجرّؤوا عليه ونكلوا به وعذّبوه حتى شعر باليأس وتوجه إلى الطائف مشياً على قدميه ومكث فيها عشرة أيام يدعو الناس هناك ولكن لم يستجب له أحد ثمّ رجع إلى مكة مستجيراً بأحد سادة العرب لأن قريش رفضت دخوله في نفس عام الحزن تزوّج الرسول عليه السلام بسودة بنت زمعة وكانت أوّل زوجة تزوّجها الرسول عليه السلام بعد وفاة خديجة.(9) حادثة الإسراء والمعراج بعد الحزن والهوان الذي أصاب الرسول عليه السلام في عام الحزن دعاه ربّه إلى رحلة الإسراء والمعراج ليطيب خاطره ويهون عليه ويريه قدر نفسه عند ربه وهذه الرّحلة تُعتبر مُعجزةً من مُعجزات الرسول عليه السلام ولكن كعادة قريش لم تُصدقه واستهزؤوا به ووصف لهم الرّسول بعض الذي رآه ولكن لم تتوقّف قريش عن تكذيبه. بيعة العقبة الأولى بقي الرسول عليه السلام يدعو لله وحده ويُعرض دينه للقبائل دون كلل أو ملل حتى بزغت علامات هدى لقوِم من الخزرج كان الرسول قد دعاهم واستجابوا له أسلموا ثمّ ذهبوا لقوم يثرب يدعون أهلهم للإسلام وبالفعل استجاب بعضٌ من القوم وسرعان ما انتشر الإسلام في أهل يثرب ثمّ توافد اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب في موسم الحجّ وبايعوا الرسول على الإسلام وسمّيت ببيعة العقبة الأولى وأرسل الرسول عليه السلام مُصعب بن عمير يُعلّمهم أمور دينهم ويتلو عليهم القرآن وبهذا نشر مصعب الدين الإسلامي في مُعظم أهل يثرب. بيعة العقبة الثانية في موسم الحج التالي أي السنة الثالثة عشرة من النبوّة وفد بضعٌ وسبعون رجلاً وامرأتان من المسلمين مع مصعب ليبايعوا الرسول عليه السلام عند العقبة وسميت ببيعة العقبة الثانية أو بيعة العقبة الكبرى وسط مشاعر الولاء و الحب والتناصر بين المسلمين. منذ ذلك الوقت قرر الرسول والمسلمون أنّ أمر الهجرة إلى يثرب بات ضرورياً لحماية أنفسهم من كفار قريش وتعهّدوا الأنصار بتوفير الحماية لهم. الهجرة أذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى يثرب متسلّلين بالخفية خوفاً من قريش وتوالت الهجرة شهرين كاملين حتى خلت مكة من المسلمين ولم يبق فيها غير الرسول عليه السلام وأبي بكر وعلي بن أبي طالب وبعض المستضعفين من المسلمين. تفاجأت قريش بأمر الهجرة وحاولت المنع لكنها لم تستطع منعهم فاجتمع سادة قريش في دار الندوة وقرّروا فيها قتل الرسول عليه السلام وحاصروا منزله ولكن تدبير الله كان أجل فأمر الرسول بالهجرة متخفّياً مع أبي بكر مرتدياً ثوباً إلى غار ثور وحمى الله الغار بخيوط العنكبوت وعلي يرقد في سرير رسول الله ثمّ اكتشفت قريش أن الرسول هاجر وترك مكة وبعثوا برجالهم يبحثون عنه في كل مكان ولكن حماية الله ونصرته ومكره له كانت أعظم من ذلك وتمت بعدها الهجرة إلى المدينة. انتشر خبر مجيء الرسول عليه السلام وصحابته بين أرجاء المدينة وخرجت الأنصار لاستقباله مهلّلين مُكبّرين.