المعضلة الجيوسياسية الأوروبية: من أزمة القيادة إلى مأزق الإرادة بقلم: لطفي العبيدي منذ الأزمة المالية العالمية مرورا بأزمة ديون منطقة اليورو وصولا إلى الحرب الروسية الأوكرانية تتراكم الاختبارات التي تكشف تراجع ثقة القارة الأوروبية بنفسها وعجزها عن التحول من كيان اقتصادي ناجح إلى قوة جيوسياسية فاعلة. مسارات هذا العجز تكشف أنّ أزمات أوروبا لم تعد أحداثا عابرة يمكن احتواؤها بإجراءات تقنية أو تسويات مؤقتة بل تحوّلت إلى مؤشرات عميقة تدل إلى خلل بنيوي في المشروع الأوروبي ذاته. وأمام كل هذا يبرز سؤال الإرادة السياسية ومدى امتلاك قادة الاتحاد الأوروبي الشجاعة لاتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة وليست قضية الأصول الروسية المجمّدة سوى تجل واضح لهذا المأزق الأوروبي الأوسع. سلسلة من الأحداث وجهت ضربات موجعة لثقة المؤسسة الأوروبية المتضائلة بنفسها قبل الأزمة المالية عام 2008 خدع بعض القادة الغربيين أنفسهم ظنا منهم أنهم انتهوا من الازدهار والركود' لذا حطمت الأزمة ثقتهم في قدرتهم على توجيه الاقتصاد وأعقب ذلك ركود اقتصادي وانتعاش فاتر على نحو غير معتاد واستمرت العواصف مع أزمة ديون منطقة اليورو. المشكلة الجوهرية في أوروبا ليست نقص الموارد بل غياب القيادة الاتحاد الأوروبي يملك المال والسوق والتكنولوجيا لكنه يفتقر إلى إرادة سياسية موحدة تحوّل هذه العناصر إلى استراتيجية واضحة وبدل أن يتصرف كقوة دولية يبدو كتحالف لإدارة الأزمات لا كقوة جيوسياسية مكتملة يتقدم خطوة ويتراجع خطوتين والحرب الروسية الأوكرانية لم تكشف فقط ضعف روسيا أو صمود أوكرانيا بل كشفت هشاشة المشروع الأوروبي نفسه. والسؤال لم يعد: كيف نساعد أوكرانيا؟ بل ماذا تريد أوروبا أن تكون في عالم تتعقد تحالفاته ويتغير بسرعة لا مثيل لها تاريخيا؟ * مرآة للأزمة الأوروبية أزمة الأصول الروسية المجمّدة لم تعد مجرد نقاش قانوني أو مالي بل تحوّلت إلى اختبار يكشف مدى قدرة القارة على التفكير والتصرف كقوة جيوسياسية مستقلة. فوجود نحو 184 مليار جنيه إسترليني من الأصول الروسية معظمها في بلجيكا يضع أوروبا أمام خيار يبدو بديهيا في ظاهره ويعني: استخدام هذه الأموال لدعم أوكرانيا. غير أن التردد الأوروبي يكشف عمق الأزمة لا بساطتها. اتضح أنّ هناك خوف من تحمّل تبعات استراتيجية طويلة الأمد. وهذه المخاوف جعلت بروكسل تختبئ خلف خطاب سيادة القانون رغم أن الاتحاد نفسه سبق أن أعاد تفسير هذا المبدأ عندما اقتضت مصالحه ذلك. القانون هنا يتحوّل إلى ذريعة لا إلى قيد حقيقي. والأهم أن هذا التردد يعكس إدراكا أوروبيا غير معلن بحدود قوته في مواجهة روسيا الاتحادية. فمصادرة الأصول ليست خطوة مالية فقط بل رسالة سياسية بأن أوروبا مستعدة للانتقال من موقع الردع الكلامي إلى الردع الفعلي. التراجع عن هذه الخطوة يعني القبول الضمني بأن موسكو ما زالت قادرة على إلحاق أذى استراتيجيا بأوروبا سواء عبر الطاقة أو الأمن أو زعزعة الاستقرار الداخلي. أوروبا التي تقدّم نفسها بوصفها حامية النظام الدولي القائم على القواعد تجد نفسها مشلولة عندما يصبح تطبيق هذه القواعد محفوفا بالمخاطر. المخاوف من الطعون القانونية ومن خلق سابقة تهدد النظام المالي العالمي تكشف أن القيم الأوروبية تتراجع فور اصطدامها بالمصالح لكن هذا التناقض لا يمرّ دون ثمن إذ يقوّض صدقية أوروبا في نظر العالم لاسيما لدى دول الجنوب التي ترى في الموقف الأوروبي ازدواجية فاضحة. الأخطر من ذلك هو الارتهان الاستراتيجي المستمر للولايات المتحدة. معارضة دونالد ترامب لمصادرة الأصول وسعيه لصفقة سلام سريعة يبدو أنها تميل لصالح موسكو ينبغي أن لا تكون عامل شلل لقادة الاتحاد ومع ذلك يبدو أن القرار الأوروبي ما زال معلّقا على تقلبات السياسة الأمريكية. هذه التبعية لا تعني فقط فقدان الاستقلالية الاستراتيجية بل تعني غياب الرؤية: أوروبا لا تعرف ما تريد بل تقف عند حدود ما يُسمح لها به وإذا استمرت في التردد فإنها تخاطر بالتحول من لاعب دولي إلى ساحة تنافس بين قوى كبرى على اعتبار أنّ وضوح الاستراتيجية لم يعد ترفا سياسيا بل شرطا للبقاء كقوة ذات معنى. أوكرانيا اليوم تبدو مرآة للأزمة الأوروبية فأوروبا ما زالت تُعيد حساباتها وفق تغير المزاج السياسي في واشنطن لا وفق مصالحها الذاتية. وفي جميع أنحاء القارة يُنظر إلى الترامبية بوضوح كقوة عدائية وهذا الانطباع يزداد تشددا كما تشير عديد التقديرات حيث أصبح عدد قليل من الأشخاص يصفون ترامب بأنه لا صديق ولا عدو بينما يراه عدد أكبر عدوا بشكل قاطع. ومع ذلك لا يزال الأوروبيون يعتبرون العلاقة مع الولاياتالمتحدة مهمة استراتيجيا وعند سؤالهم عن الموقف الذي يجب أن يتخذه الاتحاد تجاه الحكومة الأمريكية تكون أكثر الخيارات هي التسوية والتوافق. *نظام جيوسياسي جديد مجموعة مصادر عدم الأمان التي تتراوح بين التهديدات التكنولوجية والعسكرية وصولا إلى الطاقة والغذاء هي بمثابة المعطيات التي تشير إلى تحول الرأي الأوروبي نحو نظام جيوسياسي جديد تُقبل فيه إمكانية الصراع المباشر على القارة على نطاق واسع. أوروبا لا تواجه فقط مخاطر متزايدة بل تمر أيضا بتحول في بيئتها التاريخية والجيوسياسية والسياسية. والصورة العامة تصوّر أوروبا قلقة وواعية بعمق لهشاشتها وتكافح لتقديم صورة إيجابية عن نفسها في المستقبل. في الأثناء يبدو أن تجربة العقوبات على روسيا قد كشفت حدود القوة الاقتصادية الأوروبية. فبعد سنوات من القيود لم ينهَر الاقتصاد الروسي كما كان متوقعا بفضل إعادة توجيه صادرات الطاقة نحو الصين والهند. وهذه الحقيقة تؤكد أن العالم لم يعد يدور حول أوروبا أو أمريكا وأن النظام الاقتصادي أصبح متعدد الأقطاب بينما لا تزال بروكسل تفكر بعقلية مرحلة انتهت منذ عقود. إن امتناع الاتحاد الأوروبي عن استخدام الأصول الروسية المجمّدة لتمويل أوكرانيا لا يمكن تفسيره فقط باعتبارات قانونية أو مالية بل يكشف في جوهره خوفا سياسيا عميقا من موسكو فحين تمتلك أوروبا ما يكفي من الموارد لتوجيه ضربة استراتيجية لروسيا لكنها تتراجع فإن المشكلة لا تكون في الأدوات بل في الإرادة. الحرب في أوكرانيا لم تكن فقط مواجهة عسكرية بل مرآة عاكسة لأزمة الهوية الأوروبية ومن دون وضوح استراتيجي ستظل القارة عالقة بين خطاب أخلاقي عاجز وواقع سياسي لا يرحم متجهة من موقع الفاعل إلى موقع المتفرج. في المحصلة عدم استخدام الأصول الروسية لا يعكس حرصا أوروبيا على القانون الدولي بقدر ما يعكس قلقا من مواجهة مفتوحة مع روسيا. هذا القلق مهما كانت مبرراته يكرّس صورة اتحاد أوروبي متردد يملك الوسائل لكنه يفتقر إلى الشجاعة الاستراتيجية. وفي عالم تحكمه موازين القوة فإن الخوف غير المعلن غالبا ما يكون أخطر من الهزيمة المعلنة. وهي معادلة كفيلة في حد ذاتها بترجيح موازين القوى.