قالوا عن ثورتها، أنها تمكنت من إلهاب الخيال العربي، فكانت ملهمتهم وعنوان عزتهم ورمز كرامتهم ففازت بدعم الشعوب وجل حكوماتهم، بل انتزعت التأييد وافتكت الاعتراف في كثير من الأقطار ومن حكومات تلك الأقطار في مختلف قارات العالم، وأحرزت على ذلك ونالته حتى داخل التراب الفرنسي. إنها الثورة التي اندلعت بعد أن فشلت كل الجولات السياسية عبر محاولات تشكيلات الحركة الوطنية لانتزاع الحقوق المشروعة التي اغتصبها الاستعمار الفرنسي واستعادة السيادة واسترجاع الاستقلال الوطني. باعتراف الأصدقاء والأعداء، والمنحازين وغير المنحازين، المؤيدين والملاحظين، إنها الثورة المعجزة والتي تعد دون منازع تاج الحركات التحررية في العالم وملكة جمالها دون منافس. إنها الثورة التي انطلقت واستمرت في أصعب الظروف ودون تكافؤ بينها وبين العدو عدة وعددا لولا أن الشعب لم يتوان عن بذل أكبر التضحيات وأعظمها، وهو يقدم النفس والنفيس والقوافل تلو القوافل من الشهداء الذين بلغوا المليون ونصف مليون شهيد. إنها الثورة التي كانت تمثل بحق ضمير التحرر والانعتاق في العالم الثالث برمته إذ هي التي كانت تقوم بدور ومهام العربة التي تجر قاطرات المطالبة بالانتصار ودحر أي شكل من أشكال الاستعمار، لتلك الأسباب ومن أجلها كانت قبلة كل تحريري يناشد الحرية، ومفخرة كل عربي شهم أبي، في القرن العشرين بامتياز كونها أهم حدث فيه. وفي نهاية ذات القرن، وبالرغم مما ترك الاستعمار وراءه من دمار ومن عوائق جمة من جهل ومن مرض وفقر المواطن والدولة على حد سواء، ولما بدأت رقعة الديمقراطية تلوح بالتوسع في العشريتين الأخيرتين من القرن الماضي، أخذت الجزائر زمام المبادرة وراحت تشق عصا الطاعة في وقت مبكر عن قيم المعسكر الشرقي الذي بدأت ملامح فنائه إذاك تظهر في الأفق وتبدو للعيان، فآلت على نفسها وكعادتها أن تدخل المغامرة وتخوض غمار ولوج عالم الديمقراطية مخيرة غير مجبرة. إنه وفي سنة 1989 وحين لم تتعد نسبة الأقطار الممارسة للديمقراطية الأربعين في المئة كانت سابقة في التحول الديمقراطي بطرق تشريعية سلسة، وسمحت بقبول الرأي والرأي المخالف وبقفز حرية التعبير إلى واجهة الفعل السياسي فكانت بحق معجزة زمنها في التخلي عن النظام الشمولي واعتناق النظام التعددي الديمقراطي الحر، الذي تتوالى فيما بعد الأقطار العربية تباعا على تبنيه قهرا وقصرا. وحيث أنه وفي بداية مشوار طرق باب الديمقراطية والشروع في تلمس طرق ومناهج حرية التعبير البناءة المفيدة، اختلط على الناس الأمر فلم يفرقوا بين الأفكار والإيديولوجيات والمذاهب وبين ما هو واقع وملموس وضرورات التبصر والتأني والتريث التي حلت محلها الحماقة والإنابة عن الآخر دون توكيل منه. واختلط الحابل بالنابل واشتعلت نار الفتنة الداخلية التي لم تبق ولم تذر لولا لطف الله وخكمة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فاخمدوا نار الفتنة بل استلوا فتيلها، وأعادوا البلاد إلى واجهة الأحداث العالمية وإلى مصاف المحافل الدولية برقم لا يمكن الاستغناء عنه أو القفز عليه. وما كان ذلك أيضا إلا إنذارا مبكرا للعرب كل العرب، في أن التيار الذي مر بالجزائر، هو تيار جارف سيأتي على الأخضر واليابس في الأقطار العربية، مادامت الجزائر قد مرت بتلك المحنة، لأن شعبها شعب يرفض التقليد والإمعية، إنما هو سباق في كل شيء ينفرد بأحكامه في كل شيء ولو كان ذلك على حسابه. اليوم وقد جرى ما جرى من اللعنة السياسية في الكثير من الأقطار العربية، فما على العرب إلا أن يتعظوا فيتخذوا مما أنجزته التجربة الجزائرية المعجزة من نجاح في المصالحة الوطنية قدوة يقتدون بها وعبرة يعتبرون بها، ودرسا يجب أن يحفظوه على ظهر قلب وأن يطبقوه في الواقع الحي دون تراخ أو تماطل أو مضيعة للوقت لأن ذلك على حساب الشعوب الشقيقة التي تعتبر الجزائر مفخرتها في كل شيء. الجزائر التي حتى في الألعاب الأولمبية المقامة مؤخرا بعاصمة الضباب وعن طريق ابنها البار توفيق مخلوفي ومن خلال شجاعته ورباطة جأشه وهي النخوة التي ورثها عن أسلافه الأشاوس تمنح للعرب كل العرب الميدالية الذهبية، فرفعت بذلك رأس الأمة العربية أمام باقي الأمم في زمن قل فيه شأن دور المنطقة العربية التي صارت لقمة مستصاغة لغيرها من الأمم وأعلام الأمم وساسة الأمم وخبرائها ومحلليها. إن ذلك ليس بغريب حينما ترفع الجزائر وقت المحن والإحن راية الفخر والاعتزاز وتحقيق الانتصار، فتكبر حينما تكبر الأحداث وتعظم حينما تتعاظم المناسبات، وتتولى عن أبناء جلدتها أداء المهام الصعاب، إنه ليس بعزيز عن جزائر مطلع القرن الواحد والعشرين، ولا هو بعزيز أيضا عن أحد أبنائها البواسل سليل بوالمرقة ومرسلي وغيرهما، وخلفهما الصالح العداء المتألق توفيق مخلوفي أن ينوب الأمة العربية والإسلامية جمعاء في رفع هامتها بين الأمم... فشكرا ألف شكر نيابة عن العملاق النائم يا مخلوفي توفيق...!؟