خلال القرن السادس عشر، ظهر رجل اقتصاد بريطاني اسمه توماس قريشام، وأسس لقاعدة أصبحت بعد قرون من وفاته من أهم مبادئ علم التسويق، ففي زمن قريشام كانت تتداول أكثر من عملة، وكل عملة تتكئ على معدن معين، فقال: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة! ولست بصدد الحديث عن علم الاقتصاد أو علم التسويق، فتلك علوم لها أهلها، ولا مانع عندي من التوسع في استعمال هذه القاعدة، بل لعلها تصدق عما أنا بصدد التحدث فيه أكثر من صدقها في عالم الاقتصاد والأعمال. وأبدأ حديثي من لقاء عابر بأحد الأصدقاء، رجل فاضل من خيرة من عرفت من الناس، قصدته يوما أشكو له من طغيان ظاهرة مقززة، وهي ظاهرة تكالب كثير من الأغبياء وضعاف العقول والهمم على المناصب، وعقبت على ملاحظتي بأنني والله أخشى وأرهب أن أكون مديرا أو مسؤولا تنفيذيا، يبدو لي الأمر كحمل الجبل أو أكبر، وابتسم صاحبي وقال أنا كمثلك، وحيرتي فوق حيرتك من تكالب التافهين والمعتوهين على المناصب، وجرأتهم في طلبها والتوسل لبلوغها، فلا يتركون واسطة إلا اتخذوها، ولا طريقا إليها إلا سلكوه... ورأينا أنه من الغيبة الحلال أن نستعرض بعض الأسماء، منهم من بلغ الوزارة، ومنهم مدير الإدارة، ومنهم من بلغ الأمانة العامة للوزارات، فإذا فتشت في سيرهم لم تجد إلا خواء، وبحثت في واقعهم لم ترجع إلا بجعجعة لا تخرج طحينا ولا غبارا، فما أشد صفاقة وجوههم وما أعظم استخفافهم بالمسؤولية، وليتهم يقنعون فهم في تماديهم سائرون، يتطلعون إلى الأعلى، وما يمنعهم ما دام قد ظفروا بما لم يحلموا به من قبل... آه يا قريشام، ما أجمل عبارتك، ليت أن أصحاب الوجوه الصفيقة التي تشبه الجدران، يتوقفون عند هذا الحد، فمسلسل الانحدار يتواصل، إنهم لا يحبون أن يقف أمامهم من يذكرهم بعاهاتهم، فيحيطون أنفسهم بذوي العاهات من المتملقين، يضفون عليهم من الصفات ما افتقدوه في الواقع، ويعينونهم في دفع كل ذكي القلب، شريف الأخلاق، يدفعون بهم إلى حافة اليأس والشرود، يحطمون آمالهم ويتفهون أعمالهم، فصاحب العين الرمداء لا يطيق ضوء الشمس... وعند هذه الهاوية السحيقة يضيع مستقبل البلاد، بعد أن حرمت من كفاءات أبنائها في إدارة شؤونها، وتكالب عليهم التافهون لمحاصرتهم، وحرمانهم من مجرد الحلم الجميل، أو العيش في سلام، هنا يتكرس واقع الجاهلية الأولى: ومن لا يظلم الناس يظلم! أن تعاقب لأنك ذكي، وأن تطاردك الرداءة وإن لم تعترض طريقها، ذنبك أنك تذكرها بعوراتها، ووجود صاحب المشية المستقيمة يضايق الأعرج، حاشا العرجان ممن ابتلوا بعرج أرجلهم، إنه عرج الدماغ وعرج الفكر، ونظرة الأحول أحول التفكير... العملة الرديئة...لا يهدأ لها بال حتى ترى العملة الجيدة تنصهر وتذوب، فالحديد لا يقاوم بريق الذهب والألماس، والسلع المزيفة لن تنافس السلع الأصيلة، وإن حاولت التشبه بها، لأنه بمجرد إزالة الأغلفة البراقة تظهر الحقيقة المستترة، فالناس لا يستهلكون الأغلفة، ولا يعبؤون بالبهرج... آه قريشام، إن العملات النقدية الرديئة خطرها محدود وهي تطارد العملات الجيدة، لكن البلوى هي هذه العملات البشرية المزيفة، وهي تتكاثر كالفطر لتملأ الدواوين والإدارات، وكل عملها أن تطارد العملة الجيدة، وكل همهما أن تجعلها تنصر في أفران المحن والمشكلات المصطنعة، وتضمن بالتالي تحييدها وكسر فعاليتها، ويكتمل المشهد ويسدل الستار بحرمان المجتمع من كفاءاته مرتين.